تحركت المياه الراكدة في بحيرة السياسة الخارجية المصرية، وبدا أن قواربها بدأت تتحرر بتدرج متسارع من آثار الركود الطويل، الذي دام عقدين أو أكثر رست خلالها من دون أي حركة فاعلة أو إشارة على أنها لا تزال حية وقادرة على التفاعل مع متغيرات العالم من حولها، وجاءت ثورة الشعب في يناير/كانون الثاني 2011 وفي يونيو/حزيران 2013 لتضخ موجات جديدة من المياه في النهر، ولتؤكد ضرورة بناء سياسة خارجية مختلفة لدولة مختلفة في بيئة دولية وإقليمية مختلفة. ليس من قبيل الصدفة أن تتحرك قوارب السياسة الخارجية المصرية في اتجاهات شتى في ظل مرحلة اضطراب يشهدها النظام الدولي وتشهدها علاقات الدول والقوى الجديدة الصاعدة أو العائدة إلى لعب أدوار جديدة على خريطة الصراعات الدولية والإقليمية، وفي ظل تغيير جذري وجوهري في أسس السياسة الخارجية الأمريكية أعاد ترتيب أولويات أمريكا في الخارج، ونقل مراكز الثقل الاستراتيجي من مواقع تقليدية إلى مواقع جديدة ووضع خطة للانسحاب المتدرج من الشرق الأوسط الذي تراجعت مكانته في جدول اهتماماتها، في الوقت الذي بدأ الدب الروسي يتحرك من جديد على المحيط الدولي بفاعلية أكثر وديناميكية كان قد فقدها على مدار العقود الأخيرة. على الناحية الأخرى من العالم، كانت الصين الصاعدة صاروخياً نحو القمة تستعد لوضع سياسة خارجية مختلفة تعتمد على دبلوماسية التوسع وتشييد القواعد وتشجيع المواطنين على استيطان أراض جديدة ونشر الثقافة التقليدية الصينية والتغلغل في أعماق المجتمعات الأجنبية، وبدا من تحركات بكين على الصعيد الدولي أن الصين بدورها تغير من سياستها الخارجية لتتوافق مع النقلات الجذرية التي أجرتها على السياسات الداخلية والتي جعلت من الضروري وضع سياسة خارجية تناسب المرحلة الجديدة، مرحلة تثبيت الدور وممارسة مسؤوليات القيادة الدولية. وفي الوقت الذي استعدت مصر واستعادت قدرتها على التحرك على محور تعديل سياستها الخارجية كانت الصين بحجم علاقتها التي تعود إلى أكثر من ستة عقود محط اهتمام كبير لديها، فكانت بكين من المحطات الأولى التي راحت القاهرة تتطلع إلى تحسين أوضاع العلاقة معها بما يخدم مصالح البلدين الصديقين ويحقق أهدافهما المشتركة في عالم أكثر أمناً وسلاماً لجميع شعوبه وبلدانه. واحتفالاً بمرور ستة عقود على تدشين العلاقات الدبلوماسية بين مصر والصين راح البلدان يؤسسان لعلاقات جديدة أكثر دفئاً، وتجعل من عام 2016 عاماً مميزاً على صعيد تطوير العلاقات بينهما، خاصة أن بداية العلاقات المصرية والصينية قبل ستين عاماً كانت قد مثلت انعطافاً مهماً في خريطة العلاقات الدولية، عقب اعتراف مصر بجمهورية الصين الشعبية، ما فتح الباب أمامها لإقامة علاقات رسمية مع الدول العربية والإفريقية. أهمية كبيرة توليها مصر لزيارة للرئيس الصيني، تشي جين بينغ، إلى القاهرة وتتطلع خلالها إلى دفع التعاون المصري الصيني إلى آفاق أرحب، ورغم انشغال الحكومة المصرية بوضع اللمسات الأخيرة على برنامجها الذي ستتقدم به إلى البرلمان المصري الجديد لنيل الثقة، إلا أن رئيس الوزراء شكل وحدة وزارية خاصة بالصين تضم 7 وزراء، وشهدت خلال الأسبوع الماضي نشاطاً ملحوظاً وعقدت اجتماعات مكثفة انتهت إلى وضع خريطة مفصلة للمشروعات المقترحة للتعاون مع الجانب الصيني، شملت مشروعات في قطاع النقل، من بينها مشروع القطار الكهربائي لنقل الركاب، وآخر لنقل البضائع، ومشروع لتطوير أرصفة ميناء الإسكندرية، ومشروع لإنتاج عربات القطارات، ومشروعات ثنائية في مجال تخزين الطاقة الكهربائية، وإقامة محطتين لتوليد الكهرباء. الأجندة المصرية فيها أيضاً مشروعات ثنائية مقترحة في قطاع التجارة والصناعة، بشأن إنشاء منطقة صناعية للجلود، وتوقيع مذكرة تفاهم مع الجانب الصيني في مجال البحوث الزراعية، وإنشاء مركز للتدريب في مجال مكافحة التصحر، ومركز لبحوث الزراعة الآلية لخدمة مشروع ال 1.5 مليون فدان الذي بدأته الحكومة، فضلاً عن مركز لتدوير المخلفات الزراعية وإنتاج الأسمدة العضوية، بالإضافة إلى تحديد أكثر تفصيلاً لأوجه التعاون الثنائي في قطاع الإسكان والتعمير والذي يتضمن مشروعات صرف صحي لخدمة القرى، ومشروعات إنشائية بالعاصمة الإدارية الجديدة، وعدداً من مشروعات التنمية في منطقة قناة السويس، والتعاون لإنشاء جامعة صينية، ومعهد فني تكنولوجي مشترك، وتصل قيمة المشروعات المقترحة على الاجتماع المرتقب بين الرئيسين المصري والصيني إلى 11 مليار دولار. الرئيس عبد الفتاح السيسي تابع بنفسه نتائج الورشة الوزارية، وأكد أهمية الإعداد الجيد لمشروعات التعاون التي سيتم طرحها على الجانب الصيني بما يساهم في أن تمثل زيارة رئيس الصين لمصر نقلة نوعية في علاقات التعاون الوثيقة بين البلدين الصديقين. من جانبها أعدت جمعية رجال الأعمال المصريين ورقة عمل، قبل زيارة الرئيس الصيني للقاهرة من خلال لجنة تنمية العلاقات بين البلدين، وبالتعاون مع السفارة الصينية والمكتب التجاري الصيني بالقاهرة، تتضمن رؤيتها للتعامل مع الصين في المرحلة المقبلة، خاصة أن عام 2016 هو عام مصر في الصين، وتركز ورقة العمل على أهمية تجميع الجهود من خلال الوحدة الاستراتيجية للعلاقات المصرية الصينية، والتي تعمل تحت مظلة مجلس الوزراء المصري. رؤية الجمعية تضمنت عدداً من المقترحات، أهمها وضع رؤية واضحة وخطة عمل قابلة للتنفيذ للتعامل مع السوق الصينية، وللاستفادة من إعلان الصين ضخ استثمارات خارجية بنحو تريليون دولار بحلول عام 2020، وطالبت ورقة جمعية رجال الأعمال بتهيئة بيئة الاستثمار وتذليل جميع العقبات التي تواجه الشركات الصينية، مما سيكون له أكبر الأثر في وضع مصر على الخريطة الاستثمارية الصينية، وأوصت الورقة بضرورة الاستفادة من العلاقات المتميزة بين البلدين في جذب الاستثمارات الخارجية التي تعتزم الصين ضخها، خلال السنوات المقبلة، والتي يبلغ نصيب الشرق الأوسط والمنطقة العربية منها من 60 إلى 70 مليار دولار، ودعت الورقة إلى ضرورة الاستفادة من التكنولوجيا الصينية في جميع المجالات، وتجربتها في مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وإنشاء مدينة صناعية صينية في مصر، ونقل خبرات إعادة التأهيل وتطوير المناطق الاقتصادية الخاصة، التي تعمل بها الصين منذ 30 سنة. من المجالات التي من المتوقع أن تشهد بدورها تطوراً ملحوظاً خلال الفترة القادمة مجال التعاون العسكري المشترك، حيث تتزايد فرص التعاون المثمر في مجالات التصنيع الحربي والتدريب المشترك، والحصول على أحدث الأسلحة الصينية، مجالات عدة خصوصاً في أنظمة الدفاع الجوي والأنظمة الصاروخية، ومن المتوقع أن تشهد مجالات التعاون العسكري المشترك اهتماماً بمجال الأقمار الصناعية وعلوم الفضاء، لخدمة مشروعات التنمية المستدامة وتوطين صناعة تكنولوجيا الفضاء، وتصنيع الأقمار الصناعية وبناء المحطات الأرضية ومعالجة البيانات والبنية الأساسية لتوطين صناعة الفضاء لخدمة مشروعات التنمية المستدامة. أحد أهم جوانب زيارة الرئيس الصيني للقاهرة جاءت مع إعلان الجانب الصيني عن رغبة الزائر الكبير في زيارة مدينة الأقصر التي تعج بالآثار المصرية القديمة، وتشمل زيارته لها جولة بين آثار ملوك وملكات الفراعنة في المدينة التاريخية، إلى جانب إطلاق فعاليات عام الثقافة الصينية - المصرية، والذي يقام في إطار احتفالات الصين ومصر بمرور 60 عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، حيث يقام معرض تشكيلي مصري صيني في المدينة، وتنظيم زيارات متبادلة لفناني البلدين من أجل تحقيق رؤية فنية بعيون مصرية وأخرى بعيون صينية، مع عقد ورش عمل مشتركة للتدريب على نظم العرض المتحفي والتقنيات الحديثة في مجال حماية وترميم الآثار. المعرض التشكيلي المصري الصيني سيتنقل من الأقصر، إلى مدن مصرية أخرى على رأسها القاهرة والإسكندرية والغردقة، حيث سيكون العام الجاري 2016 عاماً للثقافة الصينية في مصر، وعاماً للثقافة المصرية في الصين، بهدف توطيد أواصر الصداقة بين الشعبين المصري والصيني، وإتاحة الفرصة لكلا الشعبين للتعرف الى الثقافتين الصينية والمصرية على نطاق واسع، وفتح مجالات جديدة للتعاون بين البلدين في قطاعات متعددة كالتعليم والتكنولوجيا، الصناعة، التجارة، الفن والثقافة، السياحة، بالإضافة إلى تبادل الخبرات في جميع المجالات. الأرقام تشير إلى أن الصين تمثل اليوم أكبر دولة تجارية وأكبر مُصدر، وتأتي في المرتبة الثانية من حيث حجم السلع والبضائع المستوردة على مستوى العالم، ويبدو أن مصر على وشك اتخاذ قرارها بالانضمام إلى مشروع الصين لربط 65 دولة من خلال إحياء طريق الحرير، وقد سبق أن وافقت خمسون دولة على المساهمة في المشروع الذي يخترق قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، ويربط دائرة شرق آسيا الاقتصادية النشطة من طرف بدائرة أوروبا الاقتصادية المتقدّمة من طرف آخر، ويقع بينهما عدد كبير من الدول التي تكمن فيها إمكانات هائلة للتنمية الاقتصادية، بعد إعلان الرئيس الصيني، قبل نحو عام، تبنيه إحياء هذا الطريق. زيارة الرئيس الصيني لمصر توفر فرصة كبيرة وتفتح آفاقاً واسعة، لدفع علاقات التعاون وزيادة الاستثمارات والوصول للعلاقات بين البلدين إلى أعلى درجة تؤهلهما لبناء علاقات استراتيجية شاملة. باحث في الشؤون السياسية