يتطلب الحديث عن مشروع التيار الوطني المدني البحريني التوقف عند حاجته لمنظمات المجتمع المدني، نظراً لعلاقة التأثير الجدلي المتبادل بينهما، سواء في الاتجاه الإيجابي عندما تبنى العلاقة على أسس راسخة تنطلق من الفهم الصحيح الواعي لطبيعة مثل هذه العلاقة، أو في الاتجاه الخاطئ السلبي، عندما يساء فهمها من أي من الطرفين. وما يدفع هذه العلاقة نحو الأمام، ويضعها في مرتبة متميزة في مسيرة التأسيس لمشروع التيار المدني، هو التنامي الملحوظ لعدد وحضور هذه المنظمات في المشهد السياسي العالمي. ولابد من التشديد هنا على ضرورة التمييز بين منظمات المجتمع المدني، التي تشكل إحدى الدعامات الرئيسة لأي مشروع تيار مدني، والأحزاب الضالعة في التأسيس لهذا المشروع، وحمايته والدفاع عن برامجه، إذ لا يزال موضوع اعتبار نشاط وعمل الاحزاب والتنظيمات السياسية المختلفة (اممية أو وطنية او قومية او دينية) مثار نقاش وجدل وحوار واسع بين المختصين والعاملين في مجال منظمات المجتمع المدني، إذ يصر البعض على جدوى الفصل بين الاثنين بسبب احتمال وصول الاحزاب السياسية الى السلطة والحكم او على الاقل المشاركة والمساهمة فيها بأي شكل تسعى لتحقيق اهدافها السياسية بكل الطرق والوسائل المتاحة وان ذلك يتناقض ويتقاطع مع مبادئ وشروط واهداف منظمات المجتمع المدني ولا يستقيم ويتناغم معها. ولعل ما يجعل من العلاقة شبه المصيرية، إذا ما أريد لها تحقيق أفضل النتائج، ذلك النمو التوسع المطرد في وظائف تلك المنظمات من جانب، وتكاملها مع مقومات العمل السياسي الناضج من جانب آخر. فوفقاً لدراسات صندوق النقد الدولي، هناك إشارات واضحة لتعاظم هذه العلاقة، وعلى مستو عالمي، كاستجابة منطقية وطبيعية لظواهر العولمة واتساع نطاق نظم الحكم الديمقراطية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والتكامل الاقتصادي. يتعزز هذا الدور، كما تقول حولية المنظمات الدولية، بفضل الزيادة الملحوظة في عدد المنظمات غير الحكومية الدولية من 6000 في العام 1990 إلى ما يزيد على 50 ألفاً في العام 2006.. قدمت مساعدات تقدر بحوالي 15 مليار دولار أمريكي من المساعدات الدولية حتى العام 2006. وعلى مستوى الإحصاءات المحلية العربية، تتحدث الأرقام الرسمية عن عدد منظمات المجتمع المدني المسجلة في المغرب التي بلغت 90.000 منظمة في العام 2012. أما في مصر، فتؤكد قاعدة بيانات وزارة التضامن الاجتماعي أن هناك 37.000 منظمة مجتمع مدني، إلا أنه من غير الواضح كم هو عدد المنظمات الفعالة من بين هذا العدد الإجمالي. ويعاني العراق، جراء الظروف التي يعيشها في الآونة الأخيرة من قصور في عدد منظمات المجتمع المدني النشطة فوق ساحته. إذ يعتبر العراق أصغر قطاع رسمي قوامه 1.263 منظمة مجتمع مدني مسجلة فقط. وكي يتسنى لمشروع التيار المدني تحقيق الفائدة القصوى من نلك، التي يطمح لترسيخها بينه وبين منظمات المجتمع المدني، سيجد نفسه يعيد النظر في المسائل التالية: 1. التجربة التاريخية الغنية، بإيجابياتها وسلبياتها، التي خاضتها قيادات التيار المدني الحالية، في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في العقود الثلاثة الأولى من النصف الثاني من القرن الماضي. فالحقيقة التي لا تنكر أن ذلك الاتحاد شكل الحاضنة الطبيعية والمفرخة التي تربى فيهما نسبة لا يستهان بها من قيادات التيار المدني. ومن الخطيئة، وليس الخطأ فقط، النظر إلى تلك التجربة نظرة سوداوية، أو تأسفية. فالمحصلة النهائية لتلك التجربة كانت إيجابية، عندما تقيم العلاقة بين العمل السياسي والنشاط المدني. وأخيراً لابد من التشديد على الدور الذي تمارسه منظمات المجتمع النسائية، والتي تختزن البحرين تجربة غنية لا بد من قراءتها بشكل صحيح، وعلى نحو بناء، إن أريد تزويد المشروع بنظرته البانورامية التي لن ينجح بدونها. 2. دور الشباب في المشروع، والتركيز على التفاعل معهم، بعد فهم الذهنية التي تحدد سلوكهم. ومن الطبيعي أن يستغرق هذا التحول الجديد المعقد نحو الشباب كي يمارسوا دورهم الخلاق المبدع في منظمات المجتمع المدني، وقتا طويلا بعض الشيء، ويتم بذهنية تختلف عن تلك التقليدية التي ما تزال تعشش في أذهان نسبة لا يستهان بها من القيادات التي تقف اليوم وراء أي مشروع لانتشال التيار من الوضع الذي يعاني منه. 3. الظروف الراهنة بما تفرضه من مدخل مغاير مبدع يحدد طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تنشأ مع منظمات المجتمع المدني، إذ لم تعد الأساليب التقليدية السابقة قادرة على كسب أعضاء فاعلين ومبادرين في منظمات المجتمع المدني المعاصرة. هذه النظرة، إن هي شاءت التأسيس لمنظمات مجتمع مدني تقوم بأدوار مبتكرة، لا بد لها أن تكون قادرة على التأقلم مع ما نشهده من إفرازات ظاهرة العولمة المتزاوجة مع ثورة الاتصالات والمعلومات، بعد فهم آليات عمل هذه الأخيرة، وجوهر حركتها. 4. الموازنة السليمة بين الدور الاجتماعي المدني الذي تمارسه تلك المنظمات، وذاك السياسي المؤدلج الذي تؤديه قوى التيار المدني المسيسة، كي يجري الحفاظ على مقومات حركة مؤثرة لمنظمات المجتمع المدني، يتم التمسك فيها بمقاييس منظمة مجتمع مدني رائدة، دون اجحاف حقها في التعاطي مع العمل السياسي، بما يحافظ على استقلاليتها، ويحقق شفافيتها، ولا يمس مقاييسها في أداء وظائفها وواجباتها. ونجاح العمل بما تفرضه هذه الموازنة من قيم ومبادئ، قريب جدا من النجاح في اجتياز حقل من الألغام الشديدة الانفجار، دون خسائر تذكر. 5. معالجة النفور المستشري في المجتمع من أبسط أشكال العمل التطوعي، والذي هو لب وظائف منظمات المجتمع المدني وفؤاد أنشطتها. والمعالجة لا يمكن أن تتم بتوجيه التهم، أو المقارنة بالماضي، وإنما لا بد لها أن تتم، إن أريد لها النجاح، من خلال تشخيص صحيح لهذا النكوص عن المشاركة في العمل التطوعي، والتقاعس عن المشاركة فيه. 6. التنوع المتكامل في أنشطة، وطبيعة منظمات المجتمع المدني، وهذا يقتضي الخروج من الدائرة الضيقة التي تحصر التيار المدني في إطار القطاعات الهندسية والطبية والإنسانيات، نحو دوائر أكثر اتساعا، تشمل فيما تشمل قطاعات الاتصالات وتقنية المعلومات، دون ان نستثني تلك التي تنضوي تحتها المنظمات المدنية الخاصة برجال الأعمال.