×
محافظة المنطقة الشرقية

انطلاق مبارايات كأس أمم آسيا لكرة القدم تحت 23 سنة في قطر

صورة الخبر

منذ أن تمكنت الحرب التي دخلت مدينة حلب على حين غفلة من أهلها، من قسم المدينة بين ليلة وضحاها إلى شطرين لا يلتقيان، وجدت نفسي في شطر دون اﻵخر. الشطر الأكثر حداثة واﻷقل ذاكرة بالنسبة إلي. وتحول وسط المدينة اﻷكثر حيوية وتنوعاً إلى خط تماس بارد يسخن بدماء من يتجرأون على عبوره ويقعون ضحايا رصاص وقذائف خاطئة أو صائبة لا فرق. هناك تحاول أن تدرب نفسك على مدينتك المستجدة. فقد تقلصت قدرات ما تستطيعه خطواتك فيها. ولم يبق لك من المدينة القديمة التي أتخمت ذاكراتك بالصور والروائح إلا نصف حي. نصف حي معزول عن نصفه اﻵخر بستارة قماشية مخزقة برصاص لا ينفك يتبادله الجنود المتمترسون على خط التماس إياه على سبيل التزجية غالباً. تروح كل يوم تعبر الوسط الشاحب إياه متمهلاً، متأملاً صور الحجر والبشر حتى تصل إلى حي الجديدة القديم الذي شطر بين النظام والمعارضة. وتخوض في حاراته الضيقة العتيقة المقفرة إلى أن تصل كاتدرائية مار الياس في ساحة المطران فرحات اللتين تشيران إلى ماض بعيد للمدينة وأهلها لا يشبه حاضرهما بشيء. في تجوالك تسترق النظر إلى البيوت الخاوية، مصغياً إلى أصوات نساء وأطفال كانوا يملأون هذه المدينة حياة. تتوقف قبل الستارة العازلة بقليل لتجلس تحت دالية متعرشة على حائط كنيسة مار آسيا الحكيم المهدمة، وتجرد حساب المدينة وتاريخها وكيف وصلت إلى يومها هذا. ثم تعود أدراجك مكتفياً عن المخاطرة بمتابعة الرحلة التي كنت تخوضها أيام السلم وأيام كان الحي لأهله وللمدينة التي كانت تشبهه. ما يجري خلف الستارة ستراه وتسمع عنه عبر نشرات اﻷخبار فقط. كأنه يجري في بلد آخر بعيد. خراب ودماء ترى استحالة أن يعوضا ذات يوم. لشهور عدة تكر سبحة أيامك وأهل المدينة كالواقفين على اﻷطلال. المدينة بشطريها تموت ولا أحد من أهلها يقوى على أكثر من البقاء حياً. وأحياناً، حتى البقاء حياً بات فعلاً بطولياً. الحرب لم تكن حربك ومدينتك التي كانت قاسية عليك بعض الوقت لمحافظتها المفرطة المستجدة بخاصة في السنوات اﻷخيرة من القرن الفائت والتي كنت تهرب بسببها من بعض المدينة إلى بعضها، باتت قاسية عليك كل الوقت وإن أنت انتظرتها فكأنك تضيع وقتك في انتظار فكرتك عن أبهى ما كان فيها وكنت تحرسه ومن مثلك بأعينكم وليس هو حقيقتها. حقيقتها المرة التي أوصلتها إليها حربها وستارها القماشي الممزق وخط تماسها الخطر وكل ذلك الخراب. تجترح الهجرة عنها في لحظة خانقة إلى إسطنبول وتعد حقيبة كانت كافية لرحلة يومين لا لتغريبة عمر. تترك أمك على طرف السرير في غرفتك الممتلئة شمساً وهي تتأكد من عزمك على ما قررت. وتخوض ووالدك وبشر كثيرون خط التماس في معبر كراج الحجز الشهير والمكشوف على قناصي المقاتلين من الجهتين. تتزاحم والبشر. نساء ورجال وأطفال يعبرون في الاتجاهين وغبار يعمي البصر. أي تصرف خاطئ، أي حظ سيء، أي مزاج عكر للقناص هنا أو هناك قد يرديك قتيلاً. أثناء عبورك تسقط امرأة برصاص القناص. تواصل تقدمك. يجب ألا تهتم. إن اهتممت ستسقط فوقها. تبكي وتواصل المشي بفعل الدفع الذي يأتيك من خلفك مطرقاً رأسك في اﻷرض ومحاولاً ألا تضيع والدك أو حقيبتك. تصل إلى الشطر اﻵخر وتختبئ في مدخل لما يبدو أنه مستودع ضخم، فيستقبلك مقاتلون بلحى طويلة لا تكن لها وداً. وتعلم أنك سترى الكثير منهم ومنها وأنت تعبر بسيارة بطيئة كل شوارع شطر المدينة الذي كان محرماً عليك لأشهر ثم كل الطرقات المؤدية إلى الحدود التركية السورية. العلم التركي الضخم على الحدود كان اختباراً قاسياً. لسنين طويلة زرعت فينا كراهية هذا العلم وأهله من دون دراية منا أو علم، وها نحن نهرب إليهم. وعلى رغم ذلك وما أن تمر بقربه حتى تقول في نفسك: لن أعود إلى الخلف مهما كلف اﻷمر. الحال التي شهدت فصلها اﻷخير قبل ساعات أقرب إلى الجنون ومدينتك ذهبت وستواصل الذهاب ولن تعود هي اﻷخرى. وأنت تعبر المدن التركية الواحدة تلو اﻷخرى إلى إسطنبول لا يحضرك، والحياة تعاودك ببطء، سوى سؤال واحد تعرف جوابه بكل حال: ما الذي كان يفعله السوريون حين طور اﻷتراك بلدهم على هذه الهيئة؟! في إسطنبول وما إن تعبر جسرها إياه وبعضاً من أيامها حتى تجد حلب القديمة التي أضعتها في الحرب أولاً ثم تجد نفسك التي تختبر عوالم جديدة لا متناهية تالياً. لكن على أنك لم تشعر الغربة فيها فشلت كل محاولاتك لأكثر من سنتين في أن تصل في المدينة إلى بر أمان ما يعزز وجودك فيها ويقيك شر الخوف الذي تأتيك موارده لأكثر من سبب. لذا ومع تتالي موجات اللجوء السوري إلى «الحلم اﻷوروبي» تجد في إسطنبول محطة على درب هجرتك وليس نقطة وصول، فتعزم على أن تهجر المدينة وأهلها صوب «حلمك اﻷوروبي» أنت اﻵخر، مضحياً بتأقلم وكوزموبولتية كنت ركنت إليهما في المدينة ومعيداً سيرة هجرتك اﻷولى عن حلب. بالوصول إلى وجهتك التي اخترتها في الحلم إياه في أمستردام. وبعد صرف انبهار أولي بالمدن والبشر في أيام أولى تكشف الغربة التي أخفى خباياها كثيرون ممن أرشدوك إلى هذا الدرب. تحاول جاهداً لأيام وليال كثيرة أن تجد في أزقة أمستردام وساحاتها ألفة ما كتلك التي خلفتها وراءك في إسطنبول أو كتلك التي أتت عليها نار الحرب في حلب علك تكسر طوق عزلة اللجوء الذي يكبلك وكثيرين مثلك ممن اختاروا درب هجرتك نفسه وإن اختلفت الظروف واﻷسباب. وعلى أن الفشل والخيبة كانا نصيبك زمناً طويلاً في تلك المحاولة إلا أنك تصل اليوم اﻷول من العام الجديد لتمشي بصحبة عائلة هولندية صادقتها قبل مدة في الحارات القديمة الضيقة للشوارع الخلفية في أمستردام ويأتيك من خلف اﻷبواب والنوافذ الكثير من اﻷصوات والروائح والألوان التي تعيدك إلى ألفة افتقدتها في حلب حين قررت هجرها وحربها ثم في أماكن أخرى كثيرة. ألفة مع شعور بالثقة واﻷمان وبأنك حر أنت تكون كما أنت وأنك لم تخسر الدرب بل ربما بدأت تكسب الحلم والرهان.