سعيد يقطين* العلاقة بين الشرق والغرب قديمة قدم حوض البحر الأبيض المتوسط، وهي تخضع لقوانين المد والجزر التي تعرفها البحور والمحيطات، وليس المد والجزر سوى صورة عن الكرّ والفرّ في لغة الحروب الكلاسيكية. يقرّ الغرب بأن جذوره القديمة ضاربة في الشرق، ولكنه مع ذلك يقرّ -أيضا- بأن أصوله غربية، وهو يحاول تأسيس تصور لمستقبله، في العصر الحديث، بإرجاعها إلى اليونان. ولا يرى الشرق للغرب أثرا عليه في الماضي، ويحاول جاهدا اليوم ادعاء رفضه الغرب وحضارته المادية، وإن كان في الوقت نفسه -أيضا- لا يتعامل إلا مع منتجات الحضارة الغربية، من نمط الحياة الاستهلاكي إلى استشراف المستقبل والتخطيط له بأيدي الغربيين أنفسهم. ومع ذلك، فإن الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا. تلخص قولة كيبلينغ هذه المعضلة التفاعلية بين الشرق والغرب، وتظل مياه حوض البحر الأبيض المتوسط تجري رابطة بين الشرق والغرب حينا، وفاصلة بينهما أحيانا أخرى، على قاعدة الكر والفر، أو المد والجزر. شهدت بداية الألفية الجديدة، مع 11 سبتمبر/أيلول، حدثا قويا أعاد تلك المقولة لتكون قاعدة العلاقة بين الشرق والغرب، وتم الاستناد إلى كتاب صدام الحضارات، لـترهين تلك المقولة، وإبراز أن الصراعَ محددُ العلاقة، ولم يترتب عن ذلك غير وضع الشرق العربي-الإسلامي موضع الاتهام؛ فبات الإرهاب إسلامي الدين، عربي السحنة، وعلى العرب والمسلمين إعلان براءتهم من الإرهاب، براءة الذئب من دم يوسف، وأن يصطفوا إلى جانب الغرب في التصدي له، وإلا فإنهم جزء منه إذ التربة التي تغذيه وتنميه. كانت الحرب على الإرهاب بمثابة التواطؤ الحضاري الذي سيدفع العرب والمسلمين إلى الاصطفاف إلى جانب الغرب للتملص من التهمة، وإلى الإعلان عن ضرورة التصدي له بمختلف الأشكال، لأنه بات يستهدف العرب والمسلمين أنفسهم، وهو لا يفرق بين المسلم والكافر. وبدأت الندوات والمؤتمرات العربية-الإسلامية تعقد هنا وهناك في مختلف العواصم العربية، والمصنفات تنشر هنا وهناك تدعو إلى حوار الأديان، والتسامح الديني، والتفاعل الثقافي، وقد يشارك في تلك المطبوعات والملتقيات غربيون من الباحثين والمفكرين. لكن الغرب في عقر داره لا يغير رؤيته عن الإرهاب ومواطن نشأته، ومصادر بيئته الحاضنة له. جريرة الإرهاب جاءت أحداث باريس لتجعل فرنسا ترى نفسها مثل أميركا في حربها ضد الإرهاب، من خلال مواطنين غربيين-شرقيين، استغلوا ديمقراطية الجمهورية، وراحوا يحاربون غربيتها، باسم شرقية الإسلام، فكانت حالة الطوارئ مبررا لاقتحام شرقية غربيين وهميين، والتصدي لكل شرقي في أوروبا. ولم يتولد عن ذلك غير الإحساس بالتميز الغربي، فكان الاعتداء من لدن الموطنين على مختلف الأجيال من المهاجرين الذين استوطنوا فرنسا، وهم يحملون جنسيتها. وجاء إسقاط الطائرة الروسية ليكون بدوره مسوغا لاصطفاف روسيا إلى جانب سوريا للتصدي للإرهاب، وهو هنا ليس تنظيم الدولة الإسلامية، ولكنه المعارضة السورية، ودعمت الكنيسة الروسية هذا الاصطفاف للتصدي للشرق. ولم يكن للطائرات وقاذفات الصواريخ إلا أن تمطر سماوات العراق وسوريا بقذائفها التي لم تزد إلا من إرهاب المدنيين الذين وجدوا أنفسهم أمام ضرورة الإلقاء بأنفسهم في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولم تكن وجهتهم إلا إلى الغرب. ويا للمفارقة، يصبحون لاجئين ولست أدري أي إرهاب أو أي عنف: هل الإرهاب الشرقي، أم التدمير الغربي الذي يحارب الإرهاب؟ أم التحالف الذي يجتمع فيه غربي غربي، وغرب شرقي، وشرق شرقي؟ ولن تكون النتيجة، في كل الأحوال، وبغض النظر عن الملابسات والتواطؤ، غير ممارسة المزيد من التدمير للعراق وسوريا. لم تؤد الأحداث المتولدة عن الإرهاب إلى إعادة الاصطفاف بين الشرق والغرب، بالكيفية القائمة على تنافر الأضداد، إلى التواطؤ على مواجهة الإرهاب، ولكنها أيضا أدت إلى بروز هوة جديدة، بين الشرق والشرق. هل نقول بين فارس والعرب؟ أو بين الشيعة والسنة؟ يرفض بعض الشيعة، وهم يتصدون لمحاربة الإرهاب زعمهم أن الصراع بين السنة والشيعة، بينما لا يصرح آخرون بنياتهم في التصدي للسنة. وفي المقابل يمارسون حربهم ضد الإرهاب، على أنها حرب على السنة، لكن الحرب الإعلامية عبر القنوات لا تني تؤكد أن الصراع سني شيعي، وأن كلا منهما يكفر الآخر، ويتهمه بالإرهاب. هذا الصراع الجديد، بين السنة والشيعة، سواء اتخذ بعدا مباشرا أو غير مباشر، لا يختلف عن التناقض بين الغرب والشرق، في كيفيات إدارته وتدبيره، حيث نجد التصريحات الرسمية الغربية، بين الفينة والأخرى، تلوح بأن الحرب ليست على الإسلام، دين السلام، ولكنها حرب ضد التطرف الديني، وضد الإرهاب. ما نتج عن الحرب ضد الإرهاب، ممثلا في القاعدة، عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول لم يؤد بأميركا، مع الزمن، سوى الإحجام عن اتباع النهج نفسه بعد بروز شبح أكبر من القاعدة هو تنظيم الدولة، لكن روسيا التي كانت مترددة في الحرب السابقة، نلقاها الآن تحتل موقع أميركا في التصدي للإرهاب ممثلا ليس فقط في تنظيم الدولة، ولكن في المعارضة السورية أيضا، وهي بذلك تلتقي مع إيران التي تخوض حربها الشيعية تحت مسمى مواجهة الإرهاب السني، حتى وإن لم تصرح بذلك بشكل مباشر. فوضى وندية إن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: لماذا بؤرة كل هذه الفوضى التي يجمع بينها التفاعل/التواطؤ هو الشرق الأوسط-المتوسطي؟ ألإنه مصدر الديانات الثلاث وملتقاها؟ أم لأنه ملتقى القارات وامتداداتها وتضارب مصالحها؟ أم أن التدخل الغربي في الشرق منذ حملة نابليون، مرورا بسايكس بيكو، والاستيطان الإسرائيلي وراء كل هذا الواقع؟ أم أن عدم الجواب عن أسئلة النهضة العربية وراء كل هذه الفوضى؟ ستنتهي هذه الحرب ضد الإرهاب، كما انتهت آلاف الحروب في التاريخ الشرقي-الغربي، ولعل الحروب الصليبية والاستعمارية أطولها، وسيتم استقدام الغرب لإعمار البلاد الشرقية التي دمرها التواطؤ الحضاري الشرقي-الغربي. ولكن هل سيتولد عن تلك النهاية بدايات جديدة للتفاعل والحوار الثقافي بين الشرق والغرب؟ أم أن دورة العلاقة بينهما ستعود، كرة أخرى، إلى التواطؤ الذي يقضي بالقبول المُبطَّن بالرفض، كما يقع في لحظات استراحة المحارب، إلى أن تحصل أحداث أخرى مشابهة، والزمان دائري؟ إن الحوار الحقيقي والمفترض بين الشرق والغرب لا يمكن أن يحدث في نطاق تبلبل الألسنة. لقد وحد الغرب لغته الحضارية والفكرية والثقافية والاقتصادية منذ عصر النهضة، أما الشرق فإنه ما يزال يتكلم لغات كثيرة تتضارب أصواتها ولا تنسجم مصالحها ولا تتحدد مقاصدها. وما لم يعمل هذا الشرق على أن تكون له لغته الخاصة التي يجيب من خلالها عن مطامح الشعوب التي تستوطنه، فلن تكون له لغته الخاصة التي يمكن أن يتواصل بها مع الآخر الغربي المختلف. وفي غياب هذه النِّديَّة بين الشرق والغرب سيظل الشرق شرقا، أي موطنا لاحتمالات فوضوية، يتولد بعضها من رحم بعض، ولن تتغير غير الأسماء، وسيظل الغرب غربا لا يبحث إلا عن مصالح مواطنيه الذين ينتخبون من يذود عن حماهم، ويرعى مصالحهم، ويتواطؤ مع الغير لضمان الرفاه لمواطنيه، ولو بتدمير كل ما يتصل بالبلاد والعباد في الضفة الأخرى من حوض البحر الأبيض المتوسط. _____________ *ناقد وأكاديمي مغربي