يعرف محبو البر جيداً الفرق بين سيارة ذات دفع ثنائي وأخرى ذات دفع رباعي. فالأولى وإن استطاعت أن تخدمك في أول الرحلة، غير أنها قد تخذلك وقت الصعاب. أما الثانية فإنك تعلم أنها أهل لإكمال المهمة. وهكذا هي النهضة بالوطن -متمثلة في تحقيق حلم التحول إلى مجتمع اقتصاد المعرفة-، إذ لا يمكننا الوصول لها سوى بالاعتماد على الوسائل المناسبة لإتمام الرحلة، وهناك أربعة مجالات لا غنى عنها لدفعنا نحو النهضة وهي: علوم الطبيعة، والتقنية، والهندسة، والرياضيات. وتسمى اختزالا -بالإنجليزية- مجالات "ستيم" STEM Fields. ويتفرع عن هذه المجالات عشرات التخصصات. وتدخل تلك التخصصات في شؤون الحياة كلها. من الطب إلى الاتصالات، ومن الاقتصاد إلى دراسات المجتمع، ومن الصناعة -البتروكيميائية مثلا- إلى الخدمات التقنية. فنحن اليوم نعيش في عالم يعتمد على المعارف والمهارات التي تزودها مجالات "ستيم" للمتخصصين والمتدربين فيها، وسوق العمل الناضج والصحي في حاجة مستمرة للماهرين في تلك المجالات. وفي حين أنه ينبغي على سوق العمل أن يستوعب المؤهلين في مجالات "ستيم" ويستفيد من مهاراتهم. فإنه في المقابل ينبغي على الحكومة أن توفر لكل المواطنين التعليم العام والجامعي المناسب في تلك المجالات، وأن توفر البيئة المناسبة للباحثين والمتخصصين فيها، إضافة إلى تشجيع رفع أعداد طلاب الدراسات العليا وخصوصا مرحلة الدكتوراه. ولكيلا يمل القارئ من الكلام بدون ضرب أمثلة، سأخبركم عن شركة جوجل التي قامت على محرك البحث الشهير الذي أصبح جزءا من حياتنا في هذا العصر. إن محرك البحث هذا قائم على الرياضيات. فجوهره هو سلسلة من الخطوات المنطقية والعمليات الرياضياتية (وهو ما يعرف بالخوارزمية). وفيها تستخدم نظريات وطرق رياضياتية لتصنيف الروابط في الويب والقيام بحسابات تترجم في نهاية المطاف إلى ما تراه في الشاشة من مواقع يقترحها لك جوجل عندما تبحث عن كلمة أو جملة. هذه الخوارزمية -واسمها PageRank- كانت نتاج عمل اثنين من طلاب الدكتوراه في علوم الحاسب -وهو من مجالات "ستيم"- في التسعينيات الميلادية بجامعة ستانفورد الأميركية، وعليها أسسا شركة جوجل التي تتجاوز أصولها اليوم 490 مليار ريال. ويقترب عدد موظفيها من 60 ألف شخص. وإيراداتها في عام 2014م اقتربت من 250 مليار ريال، متجاوزة بذلك إيرادات الكثير من الدول، وتشكل نصف الإيرادات المتوقعة لحكومتنا في عام 2016م. كل هذا بفضل أهلية شخصين في الرياضيات وعلوم الحاسب بوصفهما باحثين علميين. والفضل قبل ذلك يعود إلى نظام التعليم القوي ووجود علماء قادرين على اقتراح المشكلات المناسبة لطلاب الدكتوراه والإشراف عليهم، وإلى وجود أنظمة تشجع وتدعم المشروعات الناشئة. أردت من هذا المثال أن أبين للقارئ أهمية مجالات "ستيم". ومن المهم أيضا أن ندرك أهمية توفير المناخ المناسب للطلاب -من بدء تعليمهم إلى آخر مرحلة تعليمية في الجامعة- ليتعلموا ويحبوا مجالات "ستيم" وليبدعوا فيها. وكذلك تدريب المعلمين بصفة مستديمة في تلك المجالات، ودعم وتشجيع البحث العلمي المرتبط بها، وتمهيد الطريق للأفكار القابلة للنضوج والتحول إلى مشروعات، سواء في مجالات صناعية صغيرة، أو خدمية تقنية؛ لأن دعم الحكومة والقطاع الخاص لهذه المجالات لن يزيد المجتمع قوة في الجانب العلمي والثقافي وحسب، بل سيفتح الباب لنشوء شركات محلية قائمة على مجالات "ستيم"، مثل شركة جوجل وغيرها من الشركات والمصانع في مختلف أنحاء العالم، وبهذا يتحقق حلم النهضة.