مما لا شك فيه أن الميزانية العامة للدولة جاءت هذا العام والدول المنتجة للنفط بصورة خاصة والعالم بأسره بصورة عامة تمر بظروف اقتصادية وزوابع عدم استقرار وذلك نتيجة لانعكاس مخرجات الارهاب والاستحواذ التي تتبناها اطراف عديدة لكل منها اجندته، وزاد الطين بلة تدهور اسعار البترول والذي يمكن ان نقول عنه "رب ضارة نافعة" فهذا الانخفاض في اسعاره اثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك ان الاعتماد عليه وبنسبة تصل الى (90%) من الدخل كان خطأ لا بد من تصحيحه. لا يسعنا الا ان نقول ان الاستثمار في التعليم المتميز بجميع مراحله وتخصصاته هو حجر الزاوية في تحقيق التحول الوطني الذي ننشده فبدون تعليم متميز سوف نظل تحت رحمة الخبرة والعمالة الاجنبية، ونظل نتحرك في حدود المربع رقم (1) ولذلك قدم الملك سلمان – حفظه الله – برنامج التحول الوطني الذي يستحق ان يطلق عليه التحول الوطني الكبير حيث اشار - حفظه الله - الى ملامح ذلك التحول من خلال خطابه امام مجلس الشورى وكذلك من خلال كلمته في اعلان الميزانية العامة للدولة (1437 / 1438ه)، وهو الأمر الذي سيؤدي الى خلق وطن مستقل عن عائدات البترول الذي ثبت بالدليل القاطع انه ضيف كريم اعطى بكل كرم الا انه يتعرض لضغوط عديدة، كما وكثرت السكاكين التي تحاول تحييده والتي نجحت بنسب متفاوتة ناهيك عن احتمال نضوبه على المدى المتوسط. نعم الميزانية العامة وما تضمنته من بنود وما اسفرت عنه من قرارات وضعت في عين الحسود عودا؛ فالمملكة ولله الحمد والمنه لديها احتياطيات ضخمة معززة باستثمارات اضخم ولديها قدرة انتاجية للبترول عالية كفيلة بتحقيق الحد الادنى من الدخل حتى لو وصل سعر البترول الى ادنى من (20) دولارا. واذا قارنا وضع المملكة مع وضع الدول الاخرى المنتجة للبترول من داخل منظمة اوبك ومن خارجها نجد ان المملكة تقع في الجانب الآمن مقارنة بتلك الدول التي خفضت قيمة عملتها واعلنت حالة التقشف القصوى. اما ما يتعلق برفع الدعم عن بعض المنتجات فهذا امر مستحق كان يجب اتخاذه حتى مع عدم وجود عجز في الميزانية لان له ايجابيات تتغلب على سلبياته. نعم جاءت الميزانية العامة للدولة متوازنة وافضل بكثير مما كان متوقعا ولهذا فإن مؤشرات الميزانية لا بد وان تنعكس سلبا وايجابا على سرعة التحول الوطني اذا كانت الدولة فقط هي المعنية بذلك التحول. اما اذا تكاتفت الدولة مع القطاع الخاص لاحداث ذلك التحول فإن المهمة سوف تكون اسهل والمدة اقصر والناتج افضل وهذا قد جرب من قبل من خلال انشاء شركات ناجحة مثل شركة سابك وشركة الاتصالات وشركة معادن وشركة المياه وشركة الكهرباء وغيرها ولهذا فإننا بحاجة الى تكرار ذلك الاسلوب من خلال الاستثمار في شركات متعددة تأخذ على عاتقها مع مثيلاتها القائمة عملية تعدد مصادر الدخل. فإذا كان رأس مال شركة سابك حاليا هو (30) مليار ريال تملك الدولة منه (70%)، واذا كانت شركة سابك تحقق ارباحا متوسطة تصل الى (25) مليار ريال سنويا تحصل الدولة على عائد منها قدره (18) مليار ريال سنويا فإن هذا يعني ان الدولة لو ملكت (10) شركات ناجحة مثل سابك بنفس رأس مال سابك وحققت ارباحا مماثلة فإن دخل الدولة من هذه الشركات فقط سوف يصل الى (180) مليار ريال وهذا يشكل (25%) من الميزانية العامة للدولة وهذا على سبيل المثال لا الحصر فما بالك اذا وصل عدد مثل تلك الشركات الى (50) شركة فان عوائد الدولة منها سوف يصل الى (900) مليار ريال وهذا وحده يكفي لتحقيق رقم الميزانية الحالية تقريبا هذا بالطبع لن يحدث بين عشية وضحاها ولكنه ممكن التحقيق خلال خطة زمنية محددة بخمس او عشر سنوات او حتى اكثر. نعم هذا حلم يمكن تحقيقه مع انه يحتاج الى الاختيار الدقيق للمشروعات التي يمكن ان يتم تبنيها والاستثمار فيها. خصوصا ان ميزة هذه الشركات انها سوف تبدأ من حيث انتهى الاخرون اداريا وتقنيا وذلك من خلال الدخول في شراكة استراتيجية مع المستثمر الاجنبي الذي تم فتح الباب على مصراعيه من اجل جذبه لانه سوف تتم الاستفادة منه من جانبين الاول الحصول على التقنية المتقدمة والثاني ضمان اسواق الدولة التي ينتمي اليها ذلك المستثمر. اما القطاع العام الحالي لدينا وكما هو قائم فلن يستطيع تحمل تبعة التحول الوطني الضخم الذي عبرت عنه النية الصادقة في التغيير والتجديد والاصلاح وذلك لان ذلك القطاع مترهل "فمن شب على شيء شاب عليه" والدليل على ذلك مرور عدد كبير من خطط التنمية أتى نسبة منها فيما نشاهده من تطور وعمران وتقدم، والنسبة الاخرى ذهبت ادراج الرياح نتيجة الترهل الاداري بصورة رئيسية الذي عزز عوامل الهدر والفساد والاستحواذ الخفي واللامبالاة وعدم المحاسبة وغياب الرقابة الصارمة وغيرها من الاسباب. ولهذا فإن تحقيق التحول الوطني لا بد وأن يأخذ على عاتقه اتباع مسارين لتحقيق ذلك التحول المسار الاول يعنى بمهمة تطوير واصلاح واعادة هيكلة القطاع العام والقضاء على الترهل في كل مؤسسة من مؤسساته من القاعدة الى القمة وتجديد الدماء واعادة الهيكلة وتبني نظام وظيفي يكافئ المجد ويحاسب المقصر. آخذين بعين الاعتبار ان لدينا قطاعات متميزة يمكن اخذها كنماذج نجاح يقتدى بها من خلال الاخذ بمميزاتها وفي نفس الوقت التخلص من السلبيات التي تعيق العمل في المؤسسة المراد تطويرها واصلاحها. ولنا في البنوك وشركة ارامكو والهيئة الملكية للجبيل وينبع، وشركة سابك وغيرها اسوة حسنة. ان الجدية في العمل والالتزام به لا يأتيان الا من خلال جعل الوظيفة الحكومية رهنا بالانتاجية والالتزام مع اخضاع تلك الوظيفة للمنافسة الدائمة اي ان يشعر الموظف انه يمكن الاستغناء عنه بمجرد تهاونه او انخفاض انتاجه او تقادم خبرته وهذا يجعله حريصا على الالتزام والاخلاص وتطوير نفسه بنفسه حفاظا على وظيفته والا فإن استبداله من قائمة الانتظار واردة وممكنة وسهلة. ليس هذا وحسب بل لا بد من ضمان تطوير مسارات التعليم والصحة والعدل والخدمات الاخرى لانها ركيزة كل تطور وارتقاء. اما المسار الثاني فانه يتمثل في الاستثمار من خلال المشاركة بين الدولة والقطاع الخاص المحلي و(او) الاجنبي، اخذين بعين الاعتبار نجاح الدولة في هذا المجال كما حدث من خلال انشاء شركة سابك والاتصالات ومعادن ناهيك عن شركة ارامكو المملوكة للدولة. نعم التجارب الناجحة يجب ان تتكرر وفي نفس الوقت الاستفادة من تقييم التجارب الفاشلة ان وجدت ناهيك عن تصحيح مسار بعض الشركات الناجحة نسبيا لان محصلة كل ذلك يصب في النهاية في مصلحة الجميع وذلك على طول مساحة الوطن وعرضه. ليس هذا وحسب بل لا بد من ان يحقق التحول الوطني التكامل بين المناطق ذلك ان لكل منطقة مميزاتها التي يمكن ان تستفيد منها المناطق الاخرى والعكس بالعكس وهذا ما اشار اليه خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله -. نعم ان اكثر ما يقتل عمليات التطوير اللجوء الى عملية التنظير التي تسبقها والتي تقوم عليها شركات استشارية اجنبية والتي ينتهي دورها بمجرد تسليم ملف يطول انتظاره. ان دولا مثل ماليزيا رفضت اجندات البنك الدولي للاصلاح الاقتصادي ابان انتكاسة النمور الاسيوية قبل عقدين من الزمن وبدلا من ذلك اعتمدت على التخطيط الذاتي ولذلك حققت قصب السبق بينما دول عديدة قبلت بمشورة ذلك البنك وغيره وأخفقت. ولهذا فانه يمكن الاستفادة من التجارب الناجحة في الدول التي اعتمدت على نفسها في عملية التحول مثل تركيا وماليزيا وكوريا وسنغافورة وغيرها ومن التجارب الناجحة للدول التي استفادت من استشارات شركات استشارية مثل ماكنزي وغيرها. ذلك ان النصائح المعلبة في الغالب لا تبدي ولا تعيد في بلد غير بلد المنشأ لانها صممت من قبل من لا يعيش واقع الامر في بلادنا وابعاده وبالتالي فإن دمج الخبرة الوطنية مع الاجنبية اثناء ممارسة التطبيق تكون الاكثر ملاءمة فكل منهما يصحح للاخر حسب مفاهيمه وبالتالي ينتج تلاقح بين الافكار تولد افكارا ابداعية ملائمة وواعدة ومتوازنة. وعليه فإن الميزانية العامة للدولة يمكن ان تأخذ مسارين متوازيين الاول الصرف على مؤسسات الدولة المختلفة بما في ذلك الخدمية والدفاعية والامنية والصحية والعدلية والتعليمية والبلدية وغيرها كما هو قائم مع تطوير تلك المؤسسات لكي تتحمل تحقيق الجزء المناط بها من عملية التحول الوطني واما المسار الثاني فيتمثل في تخصيص جزء من الميزانية العامة للدولة لإحداث تحول وطني في مجال الاستثمار من خلال المشاركة بين القطاع العام والخاص المحلي والاجنبي وذلك من خلال استحداث شركات انتاجية جديرة بالاهتمام يمكن تحديد ماهيتها ومجالاتها طبقا لتوفر الجدوى والظروف الملائمة لكل منها فبلادنا غنية بخامات الحديد والذهب والالمنيوم واليورانيوم والاسمنت والزجاج بالاضافة الى الاستثمار في مجالات الادوية والامصال وقطاع التجزئة والسياحة والامور الخدمية والانتاجية الاخرى ذات المردود الاقتصادي الواعد ليس هذا وحسب بل ان منتجات النخيل التي نملك منها (25) مليون نخلة لا بد وان تكون واعدة كمصدر أخضر من مصادر الدخل ناهيك عن النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية التي اصبحت مجالات استثمار واعد لعدد من الدول ذلك ان المملكة تمثل سرة العالم وملتقى طرقه واتصالاته. وذلك كله يمكن دعمه بالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة وفي مقدمتها الطاقة الشمسية التي يمكن ان نكون الاغنى في مستوى انتاجها واستخدامها. وفي الختام لا يسعنا الا ان نقول ان الاستثمار في التعليم المتميز بجميع مراحله وتخصصاته هو حجر الزاوية في تحقيق التحول الوطني الذي ننشده فبدون تعليم متميز سوف نظل تحت رحمة الخبرة والعمالة الاجنبية، ونظل نتحرك في حدود المربع رقم (1). ان مخرجات التعليم المتميز هي الركن الركين الذي يجب الركون اليه من قبل كل من القطاع العام والخاص من اجل الاستفادة من اقتصاد المعرفة كجزء فاعل في عملية التحول الوطني المنشود. والله المستعان.