يولد المرء بمفرده، ويموت بمفرده، ولكنه لا يحيا إلا مع الآخرين وللآخرين. وسواء قلنا مع سارتر: «إن الجحيم هو الغير». أم قلنا مع غوته: «ليس ثمة عقاب أقسى على المرء من أن يعيش في الجنة بمفرده»، فالمؤكد أن الوجود من دون الآخرين يبدو نوعاً من المستحيل. وسواء كان الغير هو الخصم الذي أصطرع معه وأتمرد عليه، أم كان هو (الصديق) الذي أتعاطف معه وأنجذب نحوه، فإنني في الحالين لا أستطيع العيش من دونه، ولا أملك سوى أن أحدد وجودي إزاءه. ولعل هذا ما يذهب إليه الحكيم الصيني العظيم لاوتسو مشدداً على أن الذات الإنسانية المنفتحة تنطوي على الأنا والآخر معاً، وأنها الطريق الوحيد لبناء حياة كونية حقة. غير أن الثقافات الإنسانية غالباً ما تدرك هذه الحقيقة في شكل انتقائي، يتوقف مدى اتساقه وتفتحه، أو على العكس مدى تناقضه وانغلاقه، وفق موقع كل ثقافة - أمة في التاريخ ودورها فيه في كل مرحلة من مراحله، وكل حقبه في تطوره. فإذا ما توافر لديها موقع مركزي فيه، وامتلكت موارد التأثير فيه، كانت رؤيتها لغيرها من الأمم والثقافات أكثر تفتحاً وتسامحاً، وإذا ما افتقدت ذلك الموقع وتلك القدرات، وتهمش دورها في تشكيل الواقع المحيط بها، كانت رؤيتها للآخر أكثر سلبية وانطوائية، فالأمم، كالأشخاص، تمر عبر تاريخها بدورات الحياة كاملة، من الطفولة والشباب إلى الكهولة والشيخوخة، غير أن طفولتها ميلاد سياسي، وشبابها نماء حضاري، وكهولتها نضوج قومي، فيما شيخوختها تدهور في القوة والمدنية معاً، لا ينتهي بالموت كآحاد الناس، بل بانبعاث جديد، فبينما الأفراد يفنون من دون انبعاث جديد داخل هذا العالم، تبقى الأمم قادرة على الانبعاث مرة ومرات، في دورات حضارية وحلقات تاريخية. في طفولتها تكون الأمم بريئة مثل طفل، ترغب في التعلم من المحيطين بها من دون أحقاد عليهم، أو عقد تنمو نحوهم، بل ومن دون حرج تستشعره في أعماقها، فالآخرون بالنسبة لها معلمين ورواد، آباء كانوا أو غرباء. وفي شبابها، تكون مثل رجل يانع قادر على الحب ومفعم بالأمل، منفتحة على غيرها من الأمم، قادرة على التثاقف معها وليس فقط التعلم منها، تأخذ وتعطي واثقة من نفسها، وإن احترمت غيرها من دون خشية أو فزع، فالعالم لديها أجمل والمستقبل أوعد وأرحب. أما في كهولتها، فتصبح الأمم مثل رجل يدرك أن أجمل أيامه صارت خلفه، فلم يعد قادراً على التطلع إلى جديد، فلا شهوة المعرفة باقية، ولا دهشة التساؤل قائمة، ولا ألق الكشف بادٍ، بل دخل كل شيء إلى حيز (العادي والمعتاد). فعندها تتعانق مع المألوف، وتتشبث فقط بالبقاء على قيد الحياة داخل عالم لم يعد فيه جديد، لا هو رحب كفضاء، ولا هو ضيق ككهف، يسير كل شيء فيه بانتظام رتيب. وعندما تبلغ الأمم شيخوختها، تصير كالشيخ، إذ تيبست قوته العضلية، وشاب القصور ملكاته الذهنية، فتراجعت إرادته الطلقة، فأخذ يهرب من الناس والزمان حنيناً إلى شبابه وماضيه، فالحنين لديه أقوى من التطلُّع، يهاجسه قلق الموت، وتخاطبه نداءات رحيل خفية، فصار لا يلوي على شيء ولا يتطلع إلى شيء. هكذا، الأمم حينما تتجاوز ذروة توسعها وتمدنها وتبدأ في الأفول، فلا يبقى تاريخها واعداً بل يصبح مرعباً، فلا يومها على رحابة أمسها، ولا غدها على قدر يومها، وهنا لا يبقى عالمها فقط منتظماً رتيباً، بل يصير موحشاً وكئيباً، يمتلأ بالأعداء، فالآخرون هنا وحوش بالضرورة، يلتفون حول أرضها التي تصير كهفاً ضيقاً، بعد أن كانت فضاء واسعاً. هكذا، فإن لحظة تاريخية معينة عام كذا من قرن كذا، أو حقبة ممتدة من التاريخ تعكس بعداً من أبعاد الزمن، قد تكون بمثابة عصر نهضة لدى أمة، وعصر انحطاط لدى أخرى. فمثلاً قد تكون إحدى الحقب الزمنية الثلاث الأساسية (العصور القديمة) بمثابة عصر فردوسي لدى أمة في الشرق الأدنى القديم كمصر الفرعونية أو بابل السومرية، فيما هو عصر بدائي لدى أمة أخرى في شمال أوروبا التي كانت بربرية، أو غرب الأطلنطي حيث القارتان الأميركيتان اللتان لم يكن تاريخهما القديم يمثل للعالم أو للإنسانية شيء يذكر، على رغم وجود أجناس كانت تحيا فيهما، ومدنية كانت وليدة. كما تقع الحقبة الثانية (العصور الوسطى) على أذن سامعها، وقعاً يبلغ درجة التناقض بين العالمين: العربي الإسلامي، والأوروبي المسيحي. ففي السياق العربي ثمة ميلاد حضاري كبير على قاعدة انبلاج الدين الإسلامي، ونمو سياسي كبير على أرضية توسع إمبراطوري، وتطور ثقافي كبير على قاعدة الرؤى الوجودية المضمنة في العقيدة التوحيدية. أما في السياق الأوروبي، فلا تعدو العصور الوسطى أن تكون عصور انحطاط كبير على قاعدة تدهور سياسي للإمبراطورية الرومانية، وانهيار عسكري أمام القبائل الجرمانية، وتفتت شامل للوعي الثقافي اليوناني ـ اللاتيني، فكل مجالات الحياة تسير إلى أفول واندثار، أللهم سوى بنية إقطاعية أخذت تنمو بالتحالف مع إدراك معين للمسيحية رعته الكنيسة، كي تُخضع شعوبها إلى تصور مغترب عن الإنسان وإحساس بليد بالزمان. وأما العصر (العصر الحديث) فيبلغ درجة التناقض نفسها ولكن في اتجاه نقيض. فمن وجهة النظر الأوروبية، التي صارت غربية، نجده عصر الكشوف الجغرافية وبزوغ العالم الجديد. وهو عصر النهضة الذي بدأ بإحياء الموروث اليوناني الأدبي والفلسفي، وانتهى بتفكيك الإقطاع القروسطوي وبنيته النفسية التي جعلت الإنسان مقهوراً ومغترباً في العالم، ليولد على أنقاضه إنسان جديد تواق إلى التحرر يشبه اليوناني القديم في أساطيره المؤسسة، التي اندفع خلالها إلى تحدي الآلهة بحثاً عن فرادته واستقلاله! وهو عصر الثورة العلمية، حيث ساد منطق جديد للمعرفة قوامه التجريب، وعلاقة جديدة مع الطبيعة قوامها الكشف والتوظيف. وهو عصر الثورات الكبرى التي كرست الديموقراطية الليبرالية، وأنتجت المذهب الإنساني، ليصبح الفرد غاية كبرى للمجتمع، وهدفاً محترماً للدولة، بعدما كان ذرة ضائعة في إقطاعية تنضوي تحت إبط إمبراطورية، يحكمها الأباطرة والقياصرة بحق إلهي مقدس، ورثته الدولة التنين، أي الحديثة ولكن المستبدة، وحاولت أن تصبغه بصبغتها الدنيوية، ومبرراتها العملية، قبل أن تنتزعها منها الدولة الديموقراطية الحديثة، التي صارت، بحق، ملكوت الإنسان الحر. في المقابل، ومن وجهة النظر العربية، يحمل هذا العصر (الحديث) كل معالم السلبية، فالكشوف الجغرافية الغربية، لا تعني للعرب سوى حصار شواطئهم، وقطع طرق تجارتهم، وتدهور حواضرهم الكبرى، ناهيك عن سقوط أندلسهم، موطئ قدمهم على الشاطئ الشمالي، ودليل هيمنتهم على العالم الأوروبي. أما عصر النهضة فليس إلا عصر الهيمنة العثمانية عليهم، وما تبعه من سيطرة إقطاع رعوي جديد أخذ يكمل دور الإقطاع التتري القديم معطلاً انطلاقة العرب الجديدة ثلاثة قرون أخرى على الأقل. وأما الثورة العلمية فلم يضاهِها لدى العرب إلا تراجع واضح في قيمة الموروث العلمي الذي كانوا راكموه على قاعدة المنهج الاستنباطي التقليدي، المؤسس على المنطق الصوري الأرسطي، وعجز بالغ عن ملامسة المنهج العلمي التجريبي، المؤسس على المنطق الجدلي الجديد، حتى بدا العرب عيالاً على الغرب، وضيوفاً على المدنية، غرباء في دنيا الحضارة. وأما الثورات السياسية الكبرى فلم يعرفها تاريخنا عبر قرون أربع شغلت العصر الحديث، ولم نبلغها إلا في القرن العشرين، والحقبة الحديثة تقترب من الأفول، تاركة موقعها في الزمان للحقبة المعاصرة، ولذا استمر تخلف العرب السياسي المفعم بالاستبداد، حتى صاروا على صعيد الحرية محض استثناء عالمي، وحتى عندما هبت العاصفة الأخيرة، التي أملها الحالمون ربيعاً للحرية، سرعان ما جعلها المهجوسون بالهوية، المتعصبون للماضي خريفاً للعقلانية ومأزقاً للشخصية العربية، وكأنها، مثل جهامة الشيخوخة، لا يتسع صدرها لمرح الطفولة.