اللافت في السنوات القليلة الأخيرة، هو أن الرواية العربية تتجه إلى التركيز علىالأسلوب الفني، وتطويره والتجديد فيه، لكي يصبح السرد في شكله وبنيته منسجما مع الواقع العربي، الذي يمكن وصفه بالسوريالي من دون مبالغة. فلم يعد مقبولا أن تتكلس البنية الروائية العربية، بينما الواقع العربي يشهد تبدلات وتحولات وتغييرات تنطوي على كثير من الغموض والمفاجأة. ولم يعد مقبولا أن نظل أسرى الراوي "كليّ" المعرفة، لنقدم حكاية ما، بصرف النظر عن أهميتها وقيمتها. فالتطور والتجديد ينطويان على الهدم والبناء، تماما كالفعل الثوري. ولهذا اعتبر ماركوز أن شعر بودلير ورامبو أكثر ثورية من أشعار أخرى مليئة بالمفاهيم والقيم الثورية، ولكنها جاءت في بنية تقليدية. أي أن ثورية شعرهما تتأتى من تحطيمهما البنية التقليدية، والعمل على بنية جديدة توازي المضمون الثوري الذي نتعلق به. وعليه، تصبح الرواية العربية الجديدة مطالبة بتطويرأسلوبها الفني،إذا أرادت أن تقدم لنا رؤى جديدة، وأن تفتح الواقع من جهاته كلها، سعيا للوقوف على جوهر المفاهيم والقيم والهواجس. وهو ما قام به الروائي السوداني أمير تاج السر في روايته الممتعة "صائد اليرقات". " لم يعد مقبولا أن تتكلس البنية الروائية العربية، بينما الواقع العربي يشهد تبدلات وتحولات وتغييرات تنطوي على كثير من الغموض والمفاجأة " وأحب هنا أن أشير إلى أن الأسلوب الفني في هذه الرواية لم يكن مجرد قفز في الهواء، أو خاليا من هواجس وأفكار وقضايا إنسانية عربية ملحة، وإنما جاءت هذه الأفكار والقضايا والموضوعات على تفاوت أهميتها وتراتبيتها الاجتماعية أو السياسية والثقافية، عبرأسلوب روائي يحاول كسر المألوف، وإن بدأت الرواية العربية خطواتها الأولى فيه قبل سنوات. إن أول ما يلفت الانتباه هنا، هو عدد الرواة في هذه الرواية. ولا أعني بذلك تعدد الأصوات المألوف في الرواية، مقدار عنايتي بالذوات الكاتبة. فنحن أمام الكاتب أولا، والذي يجرد من نفسه شخصية رجل أمن فارق الخدمة بسبب إصابة تعرض لها. لكنه أيضا يقدم لنا شخصية أخرى تنطوي على دارس للإخراج السينمائي في موسكو في نهايات الحقبة السوفياتية، يدعى سنويا لحضور مهرجان سينمائي هناك، وهو الذي لم يوظف دراسته إلا في إخراج فيلم قصير لم يره أحد. ثم نعثر على الروائي الشهير "أ. ت" المحاط دائما بالهواة والمعجبين، ليتبين لاحقا أن هنالك علاقة تتشكل بين رجل الأمن السابق وبين الروائي الشهير. ولكن، كيف تسنى لأمير تاج السر أن يجمع هذه الذوات ويفصل بينها في عمل واحد، من دون ارتباك أو إرباك للقارئ؟ في الإجابة عن هذا السؤال، نكتشف أن الكتابة في حد ذاتها هي المحور الذي يجمع بين هذه الشخوص.. اللغة، والتعبير والسرد والبوح. وكأن الرواية في شكل عام تشكل بابا للخروج منه إلى الشمس، أو لرؤية العالم. فرجل الأمن السابق يقرر في لحظة عابرة أن يكتب رواية، وهو الذي لم يقرأ في حياته رواية من قبل. ولكن، هل الفكرة خرقاء مثلا؟ لا، لأن رجل الأمن يمتلك من الحكايات والشخوص في مسيرته المهنية كرجل مباحث، ما يؤهله ليغرف الكثير من هذا المعين. ولكن، لماذا الرواية؟ أو بشكل أدق: لماذا البوح؟ نكتشف في الحكاية أن الرجل مغلق على أسرار وحكايات مخيفة وغريبة، تتعلق كلها بالقمع وازدراء الناس وامتهان كراماتهم وقمع حرياتهم. وربما لأنه تحرر من ارتباطه بالجهاز الأمني، رأى أن في وسعه الآن أن يُعيد إلى ذاته بعض إنسانيتها التي نحاها جانبا طوال عمله. " يستخدم أمير تاج السر في روايته "صائد اليرقات" بنية دائرية تشبه الدوامة، لها مركز أساسي هو رجل الأمن السابق " فالرواية التي يريد رجل الأمن أن يكتبها هنا كناية عن بوح ذاتي بما يمتلك من فظائع ارتكبها بحق أبناء بلده، متجاهلا إنسانيته وضميره مقابل الالتزام بواجباته البوليسية التي هي نتاج بنية بوليسية غير إنسانية في جوهرها. يلتقي هذا الرجل بالروائي الشهير "أ. ت" ويدل الحرفان على اسم الكاتب أمير تاج السر. وهنا يتمكن التكنيك من التلاعب بين الذوات الكاتبة بحرفية متقنة. فأمين تاج السر هو الذي جرد من ذاته شخصية رجل الأمن الراغب في كتابة رواية، وهو الذي جرد من نفسه شخصية المخرج السينمائي، وها هو يعود إلينا بقناع ثالث.. قناع الروائي العارف والمدرك للعبة الروائية. لم يكترث "أ. ت" بداية بالرجل الذي اقتحم مجلسه في بهو أحد الفنادق، بوصف هذا الرجل مجهولا، وليس من الوجوه التي تعنى بالأدب وحواراته. ولكنه شيئا فشيئا يبدأ في توثيق صلته به. وهنا يحار القارئ في سبب هذا الاقتراب في بادئ الأمر. ولكنه سيجد مفتاح حيرته في نهاية الرواية. فإذا كان المؤلف ورجل الأمن والروائي الشهير مجرد وجوه لشخصية واحدة كاتبة، فإن كل شيء يصبح مقبولا أو قابلا للفهم والاستيعاب. ففي أول بداية روائية لرجل الأمن يوقفه الروائي الشهير قائلا: ما هذا؟ هذا تقرير أمني وليس رواية. ثم يبدأ تدريجيا بشرح مفهوم الرواية للروائي المفترض، الذي يبدأ في البحث بين أصدقائه وأقاربه وضحاياه عن شخصيات روائية، ونكتشف أنها جميعا صالحة لأن تكون كذلك. يستخدم تاج السر بنية دائرية تشبه الدوامة، لها مركز أساسي هو رجل الأمن السابق. ولأنه يجرد من نفسه أكثر من ذات كاتبة، فإن ذلك يتيح له التلاعب باللغة، وتوظيف الضحك فيها كما يصفه باختين، من حيث تحويل الكائنات المرعبة إلى كائنات مسخية، ومن حيث الكشف عن جهل المرء نفسه في قالب ساخر. " تطلعنا رواية صائد اليرقات في جوهرها على مقدار امتهان الإنسان وتهميشه وتجريده من إنسانيته، كما تطلعنا على مفهوم الكتابة القائم على محاربة الظلم والقمع وبيع الذات " وقد تجلى ذلك إلى حد صارخ في اختيار رجل الأمن أحد أقاربه شخصية روائية له، من دون أن ينسى أن يخبر الروائي "أ. ت" بتفاصيل تلك الشخصية. ولكنه في خضم غرقه في الإعداد للبدء في كتابة الرواية، يُفاجأ بالروائي يعتكف لكتابة رواية جديدة، مما يجعله يظن أن الروائي سرق شخصيته هو. وهنا يتدخل جهاز الأمن ويطلب من الرجل العودة إلى عمله لمراقبة الروائي، فيكف رجل الأمن عن لعبة الرواية فورا، وكأنه رجل آلي تم إطفاؤه من قبل شخص آخر. وحين يعود الروائي من عزلته، نكتشف أنه جعل من رجل الأمن شخصيته الروائية الجديدة. والمفارقة هنا، هو أن الروائي جعل رجل الأمن في نهاية الرواية يعود إلى عمله! هكذا تحول صائد اليرقات "رجل الأمن" إلى يرقة عند الروائي، أو تحول الصياد إلى فريسة. واليرقات في الرواية هي مفهوم الروائي عن الشخصيات الروائية، التي تتشكل يرقة ثم شرنقة ثم حشرة كاملة، إذا ما أدرك الكاتب كيف يحافظ عليها من الموت بخياله، الذي استخدمه تاج السر هنا بمهارة عالية. كان ثمة تلاعب في الأدوار، الأمر الذي جعلنا نصف البنية الروائية بالدائرية. وقد تسبب هذا التلاعب في أن يقوم الصياد "رجل الأمن" بتحويل نفسه إلى فريسة، لكي يسهل علينا الاطلاع على كيفية تلاعب المرء بنفسه ضمن بنية بوليسية منخرط فيها. وهو ما يمنع رجل الأمن في النهاية من أن يصبح روائيا، لأن ذلك لا يستقيم ومهمته غير الأخلاقية. تطلعنا الرواية في جوهرها على مقدار امتهان الإنسان وتهميشه وتجريده من إنسانيته، كما تطلعنا على مفهوم الكتابة القائم على محاربة الظلم والقمع وبيع الذات، في بنية تقوم في جزء كبير منها على تقنية بوليسية غير نمطية. ______________ كاتب أردني