منذ مطلع هذا القرن كان من الواضح أننا أمام لعبة أمم جديدة وحلقة من حلقات الصراع الأشد والأعنف والأقسى.. ومنذ مطلع القرن الذي استقبل فيه العالم أحداث مانهاتن، كان الهدف جرنا إلى بؤرة تلك الكارثة.. هل مرّ على العالم منظومة غامضة الأهداف والتكوين والدعم.. يلتقي العالم من أقصاه إلى أقصاه على تجريمها وحربها.. ثم لا نرى سوى دخان كثيف، وأخبار متضاربة، ونتائج متواضعة.. مع وعد بأن حربها ستطول لسنوات..؟! هل رأيتم منظمة إرهابية تصدر النفط عبر ناقلات تعبر الأراضي المجاورة بكل استرخاء لتصل إلى مافيات تصدير النفط الداعشي بعد غسله بالنفط المرخص.. كما تغسل الأموال المشبوهة.. ثم لا ترون محاولة جادة لقطع شريان الحياة عنها؟! هل رأيتم كيف تجتمع دول العالم على حربها والدول الكبرى تتدافع بأحدث تقنياتها العسكرية ومخابراتها.. ليظل تنظيم مثل تنظيم الدولة او "داعش" على قيد الحياة، بل ويهدد ويتوعد بأنه باق ويتمدد.. بل ويضرب في باريس ليلحقها بالتحالف العسكري ضده، ويوقف دولاً أوربية على أصابع أقدامها حذراً وارتباكاً من مخاطر هجمات إرهابية في أراضيها.. ثم يدفع بريطانيا للالتحاق بالحلف عبر سيناريو محكم الأداء.. تم تأتي عملية إرهابية أخرى في الولايات المتحدة الأميركية لتحشد الذاكرة الجمعية هناك على خطر المسلمين وحتى الأميركيين منهم، وليس خطر الإرهاب الداعشي أو القاعدي أو أي منظمة مهجوسة بإشعال النار في العالم من أطرافه إلى أطرافه.. ويأتي السؤال أيضاً: ما طبيعة التفاهمات الروسية الأميركية حول سورية؟ ما هو الدور الأوروبي متفرقاً وآحاداً، ما طبيعة الصراع اليوم؟ هل أصبح صراعاً أميركياً روسياً في مواجهة حلف أوروبي لم تتضح معالمه بعد.. ما هو الدور الإسرائيلي في كل هذا الصراع؟ من يحرك خيوط لعبة الأمم اليوم في حلقات الصراع الذي أصبح العرب وقوده وضحاياه. تستعيد الذاكرة، مايلز كوبلاند عميل وكالة الاستخبارات الأميركية في كتابه الشهير "لعبة الأمم"، في محاولة لفك تلك الشفرة البالغة التعقيد، التي لم تعد صراعاً مفتوحاً بين دولة كبرى كالولايات المتحدة الأميركية ترث بعد الحرب العالمية الثانية نفوذ بريطانيا وفرنسا في المنطقة.. ولم تعد صراعات قوى كبرى في أنحاء متفرقة من العالم في مواجهة المد الشيوعي، ولم تعد انقلابات عسكرية تُعد تحت عين مخابرات الدول الكبرى المتصارعة لتظفر بنظم تضمن مصالحها وتتحالف معها سراً وعلانية. لقد تغير العالم، فلم تعد هناك أحزاب أو تنظيمات سرية تتغلغل في الجيش لتصبح الأداة التي تستخدم لصناعة الانقلابات وتغيير النظم بسهولة كما كان يحدث خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي. كان البيان رقم واحد، عنواناً دائماً في الشرق الأوسط وإفريقيا يعبر عن صراع قوى محلية على السلطة.. لتقفز مجموعات من التنظيمات العسكرية/الحزبية لرأس السلطة، ثم لا تلبث أخرى أن تسحقها بانقلاب آخر في تعطيل طال واستشرى حتى أصحبت تلك النظم أكثر خبرة وقدرة على المحافظة على السلطة.. لتنتج بعد عقود مجتمعات الفقر والعوز والقهر. إذاً، كانت القوى القادرة على صناعة نظم متحالفة أو صديقة، تلك التي تملك القدرة على إحداث التغيير في رأس السلطة.. إلا انه بعد عقود، وبعد الاحتلال الروسي لأفغانستان وتفكك الاتحاد السوفيتي ظهرت قوى أخرى على الساحة، لا تعتمد الخطاب القومي إنما تحشد خلفها إرثاً من التاريخ يشعل الذاكرة الماضوية بأمجاد الصراع والمواجهة مع الغرب، والمختلف أياً كان توجهه وأياً كان قربه أو بعده عن تلك الايديولوجيا.. لنشهد خلال أكثر من عقد ونصف من الصراعات الدامية التي خلفت ولازالت كوراث لا أحد يعلم إلى أين يمكن أن تمضي بالعرب والمسلمين. ثم لتشتعل الحروب الطائفية، لمزيد من الإثخان، في منطقة تملك كل مقومات الانطلاق ومصادر الحياة والطاقة والقوى البشرية الفائضة.. لكنها أيضاً تضم مكونات عرقية وطائفية قابلة للاستدعاء والتفجير.. ليأتي توظيف تلك المكونات عبر صناعة التحالفات في صراعات قوى محلية وإقليمية ودولية.. ولم يكن لمن يريد إشعال المنطقة وتفتيت كياناتها وهدم أسوارها أفضل من توظيف الطائفية في مشروع الهدم والتقويض.. بل ولم يكن لها أن تصنع عالماً متوحشاً في المنطقة دون استدعاء ذاكرة الصراع لتجعله ايقونة البقاء في مشهد الدم والقتل المجاني. كيف يمكن أن نقرأ مشهد الصراع الحالي بين قوى كبرى لها مصالح وتحمل صراعاتها الخفية التي تتوارى خلف داعش وسواها من تنظيمات التدمير الذاتي باسم الطائفة أو القومية أو معركة دابق التي تتداعى فيها الأمم الكافرة على المسلمين!! المتصارعون على المصالح والنفوذ يدركون أي هدية قدمها لهم تنظيم ساهموا في صناعته، ليدخلوا جميعاً في معمعة الصراع المعلن والخفي في آن.. ولن يكون ذلك من أجل إنهاء داعش والتخلص من شرورها بل ربما يكون من إجل إدارة الصراع عن قرب، وربما لأهداف أخرى لا يخرج الاستدلال عليها من دائرة استمرار حالة صراع غير معلن بتوظيف تنظيم يعلن عن نفسه بوحشية ويواجه العالم بلا تردد.. وكأنه يستدعيه كله للمواجهة؟! وإذا كان الهدف إطالة عمر الصراع، فمن هو المستهدف حقاً من هذا المشروع، الذي أبدع في توظيف تلك التنظيمات المتطرفة، بل ساهم في صناعة تلك التنظيمات.. إنها المفاتيح المهمة لفهم هذه الظاهرة القاتلة، التي لا يمكن أن تنتج سوى تشوهات أصبحت إدانة كبرى للمسلمين، ناهيك عن دورها في تفتيت المنطقة وإعاقتها لعقود طويلة.. مما يوحي أن ما يحدث ليس سوى مقدمات لعبور مشروعات ستظهر ما ان تستوفي مقومات وجودها. ثمة أهداف أخرى تتجاوز تنظيماً إرهابياً متطرفاً، فليست داعش سوى وسيلة اليوم تستخدم لأهداف أكبر، يمكن تلمس بعض مؤشراتها بعد كل عملية إرهابية تعلن داعش مسؤوليتها عنها.. لنتحمل إعلامياً وسياسياً عبء هذا التنظيم الذي يتوسل الإسلام ويحاول أن يربط بيننا وبين فكر داعش ونزعتها ووحشيتها.. بين أهداف منظمة إرهابية لا تتورع عن سفك الدماء والقتل الحرام والسبي، بل وفي مقاومة حق الشعوب بالحرية والكرامة ونظم أكثر احتراماً للإنسان وهو ما انتفضت من أجله.. وبين محاولة الزج بنا في أتون الدفع بالبراءة من داعش وسواها من منظمات إرهابية.. لتبقى تلك المساحة التي لم تحرر بعد.. ولن تكون الحملات الإعلامية والسياسية، التي تستهدف الضغط على بلادنا وتحرير جبهة مناوئة في العالم ضدنا.. سوى مؤشر على أهداف أخرى أكبر وأخطر تتوسلها هذه الحروب الغامضة. منذ مطلع هذا القرن كان من الواضح أننا أمام لعبة أمم جديدة وحلقة من حلقات الصراع الأشد والأعنف والأقسى.. ومنذ مطلع القرن الذي استقبل فيه العالم أحداث مانهاتن، كان الهدف جرنا إلى بؤرة تلك الكارثة.. ولم يكن تنظيم القاعدة وهو يعلن عن مسؤوليته بقادر على حجب الكثير من الأسئلة حول تلك العقول والخبرات التي تقف وراء الاستهداف الأكبر.. الدائرة أكبر وأوسع من فعل إرهابي مجنون.. إنها حلقات لم تُكشف بعد.. إلا انه يمكن الاستدلال عليها عند استعادة مسار الأحداث والتطورات التي لحقتها.. ثمرتها الأولى كانت تفتيت العراق العربي، ثم إشعال الحروب الطائفية، ثم استدعاء حروب الإرهاب التي تخفي المزيد من مخططات إثخان المنطقة.. ولازالت لعبة الأمم على أشدها لتدفع بعالمنا إلى مزيد من الاحتمالات القاسية. لمراسلة الكاتب: aalqfari@alriyadh.net