* انتفاضة مارس 65 بين الحقيقة والتخرصات. لم يكن انفجار انتفاضة مارس نابعاً من فراغ سياسي، وإنما لكل تلك الانفجارات السياسية التاريخية لابد من وجود خلفيات وعوامل سياسية واقتصادية، حيث تتداخل تلك العناصر جميعها لتهيئ لنا مقدمات ضرورية لذلك الانفجار القادم والسخط العارم، الذي كان في حالة كمون مؤقت، وكان الغضب والاستياء الاجتماعي ليس إلا جذوة ملتهبة تحت الرماد لبلد كان في حالة طوارئ منذ احداث 1956. لم تكن شركة بابكو بتسريحها ذلك العدد الكبير من العمال، قد وضعت في حسبانها، ماذا كانت تعني بابكو لحياة العائلة البحرينية والوسط البحريني الصغير، والطامة الكبرى عندما جاء التسريح الواسع، فإنه شمل كل بيت في هذا الحي وتلك القرية فتوزع الألم والسخط على مستوى البحرين، ولو كان المسرحون من منطقة جغرافية واحدة لهان الأمر، فإن الشعور الجماعي المتذمر ينحصر في دائرة ضيقة، غير ان بابكو جعلت من كل بيت في البحرين يومها يفتح بركان غضبه، فتعالت الاصوات والاحتجاجات الهامسة والمرتفعة، حتى نضج العنب الشعبي برمته، وكان على التنظيمات السياسية أن تستجيب لذلك الغليان المتدفق. كان المناخ العام للتسريح الجماعي الواسع في بابكو يكبر كموجات البحر، ومع قوة الريح باتت العاصفة تنتظر طائر النورس * (طائر النورس في التراث الروسي هو الطائر الذي يحمل نذير العاصفة، وقد شبهه غوركي في روايته آلام، بأنه الطائر الذي بشر بنذير الثورة، ثورة 1905) لتحمل الموج من القاع حتى السطح وتدفعه قوياً نحو الشاطئ، هكذا تراكمت لحظة الاندفاعة، الجماهيرية، وكان الطلبة شرارتها الاولى، والطبقة العاملة الرافعة الاساسية وقوة دفعها العنيفة نحو المواجهة الاوسع. فكيف ولدت الانتفاضة في مارس 65؟ والتي ظلت الجبهة الشعبية والتحرير لسنوات طويلة في جدل سياسي وتجاذب عبثي حول التأريخ الحقيقي لذلك الانفجار. نحتاج الى عقل هادئ ينطلق من الحقائق التاريخية والثوابت والشهادات الحية، وقد تبدو لنا الرؤيتين متضاربتين ومختلفتين، وخاطئتين أيضا حول كيفية التفسير لتلك الانطلاقة وهي في حالة جنينية. منحت الجبهة الشعبية اسم نشرتها 5 مارس تيمناً بتقديرها أن انطلاقة انتفاضة مارس بدأت منذ ذلك التاريخ، فيما جبهة التحرير تمسكت بأن نقطة البداية الحقيقية للانتفاضة هي الخميس 11 مارس يوم خروج الطلبة في ثانوية المنامة، ولكي نجعل من التوثيق التاريخي أقرب للحقيقة منه للتكهنات، فإننا سنرى هل كان هناك تحرك طلابي مختلف سبق يومي الجمعة 5 مارس والخميس التاريخي 11 مارس؟ حيث طفرت الخيول مقتحمة بقسوة داخل اسوار مدرسة ثانوية البنين الكبيرة والوحيدة، لتخلق هياجاً تعالت منه الاصوات في الفضاء المفتوح، فبدا مركز الاحتجاج الطلابي التاريخي في حالة ارتباك فاضح لربما لعدم تخيل الطلبة أن رد فعل السلطات لن يكون بذلك العنف، خاصة وأن التحرك الطلابي لم يكن في ذهنه مخطط التصعيد أو بأكثر من الخروج السلمي للشارع العام والتعبير عن تضامنهم مع قضية العمال المسرحين، ولكن يبدو أن حسابات الامن كانت مختلفة، نتيجة أنها على علم بأن التحرك الطلابي الكبير في المنامة سبقه محاولة طلابية فاشلة في المحرق. فمتى كانت شرارة المحرق، التي لم تنجح في اشعال القش الجاف بين طلبة الهداية الخليفية؟! يشير عبدالعلي محمد أحمد في كتابه الذكريات والوصايا مستندا على صحيفة الوقت عدد يوم الخميس 6 مارس 2008 بقوله نشر الاستاذ علي ربيعة ترجمة للوثائق البريطانية التي سلطت الضوء على أحداث انتفاضة مارس وكشف الستار عن تقرير المعتمد السياسي، الذي أكد قيام الشرطة باعتقال عدد من قيادات التظاهرة بمن فيهم اثنان من المسؤولين عن تظاهرات يومي الاثنين (8 مارس) والخميس (11 مارس) وهو اليوم الذي تؤرخ فيه الانتفاضة بسبب الصدام الذي جرى بين الشرطة والطلاب، ولم يتطرق التقرير الى يوم 5 مارس، والذي كان يصادف يوم الجمعة حسب التقويم الميلادي لعام 1965 ص 49. لهذا بات في حقيقة التاريخ أن الجبهة الشعبية اعتمدت على معلومات خاطئة، وظلت كالزوج المخدوع مع ذلك الارث السياسي في الاصرار على موقفها، حتى وإن كانت عنزة لو طارت! غير أن عبدالعلي يشير أن في يوم 8 مارس وهو يوم الاثنين جرت مظاهرة في المحرق ضد تصريحات ابو رقيبة حول فلسطين وفي عدة انحاء من العالم العربي. في مدرسة المنامة جرت محاولة أخرى للتظاهر وتم إخراج لافتات من أكياس سرعان ما أخفيت على اساس أن الخميس 11 مارس هو يوم التحرك، حيث هو اجازة لعمال بابكو اصحاب القضية على أمل مشاركتهم في الاحتجاج ص49. وكنت شخصياً في قسم المعلمين / الادبي وكان فصلنا يطل على الساحة العامة للمدرسة (ثانوية المنامة) فكنا نلمس تلك التحلقات المتناثرة المتوترة المتحفزة في الساحة، نعرفها بخبرتنا السياسية المشاغبة، فالطلاب كان في جعبتهم لعبة قادمة لابد من تحريكها. فمن يا ترى هما الاثنان اللذان اعتقلا كقيادات التظاهر المشبوهان وفق التقرير ما بين تاريخي 8 و11 مارس؟ بتفحص الاسماء لذلك التاريخ، فإن جاسم نعمة عضو قيادة حركة القوميين العرب في تلك الفترة، هو أول شخص يتم اعتقاله مع بداية الانتفاضة ولم يسبقه إلا علي دويغر بكم يوم، كأول شخص يعتقل في الانتفاضة المبكرة وآخر من يطلق سراحه، وهذان هما الاسمان اللذان قصدهما تقرير المعتمد السياسي (الذي سرته الانجليزية مربوطة برحم قسم الامن الذي يديره البريطانيون). واذا ما عرفنا علاقة نعمة تنظيمياً بالشيراوي بموضوع اتحاد الطلاب السري البكر، نلمس جزءاً من الحقيقة، فجاسم نعمة خير من خبر كل التظاهرات التي ساهم فيها في الثانوية / القسم التجاري، منذ تظاهرات 62 - 63 كحلقات حركية في الثانوية، فإن علي الشيراوي الركيزة الهامة لذلك التنظيم يشهد أن اعتقال جاسم نعمة تم في 9 مارس بقوله: استطيع أن اقول وأنا متأكد من ذلك أن يوم الاثنين 8 مارس حدثت أول محاولة لإخراج الطلاب من مدرسة الهداية وفشلت، ويوم الثلاثاء 9 مارس أعتقل جاسم نعمة أحد قيادات الحركة ص155 (انظر فوزية مطر، المصدر نفسه) والشيراوي لم يخترع اسم نعمة من مخيلته وانما كونه شريكه التنظيمي في القيادة. ولئن كان لتقرير المعتمد اهميته السياسية والامنية، فإن اشخاص ميدانيين كالشيراوي وكشهود عيان أخرين، تحمل من الاهمية ايضا توثيقها للحقيقة التاريخية الخلافية حول انطلاقة مارس تحديداً، ولكننا مع كل تلك الحقائق فضلنا البحث عن تلك المجموعة الطلابية المحرقية المشاكسة في مدرسة الهداية، التي فشلت خلال يومين من محاولاتها لتوسيع نطاق الاحتجاج من المحرق للمنامة، يكون الجسر التاريخي حكاية جميلة بين مدينتين، فوجدنا ضالتنا في الاخ فيصل جمعة، احد خلايا التنظيم الطلابي للحركة (اتحاد طلبة البحرين)، فأجرينا معه مقابلة في 9/11/2000 في مكتبه العقاري في الحورة، فهو الشخصية الطلابية التي استمرت، حتى آخر لحظة من انطفاء شرارة الانتفاضة، ضمن الطلاب النشطاء في المدارس، وتم احضارهم ضمن المجموعات الطلابية، التي كانت تسعى لتحريك الطلاب للشارع، حيث بدأ ترمومتر التراجع واضحاً، ومع اعتقال تلك المجموعة ودعتنا الانتفاضة للابد، وكان ذلك في اواخر مايو اوائل يونيو من عام 1965.