لم يكد يمضي سوى يومين فقط على قرار مجلس الأمن (التوافقي) حول سوريا حتى اتضحت حقيقة نيات روسيا وثبت أن حلفاءهم الإيرانيين قد أعطوهم مبدأ أو لعبة «التقية» التي بموجبها يحق للدول والأفراد إظهار غير ما يبطنونه، فالقيادة الروسية وعلى رأسها فلاديمير بوتين، بادرت إلى تصعيد كاسح إنْ على الجبهة السورية وإن على الجبهة الأوكرانية، وهنا فإن ما يثير ومعه ألف سؤال وسؤال هو أنَّ الأميركيين، قد واجهوا هذا التصعيد ببرود أعصاب وكأن هذا الذي فعله الروس قد جرى في أحد المنتجعات البعيدة التي قصد أحدها الرئيس الأميركي ليستمتع بأعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة وليس في منطقة ملتهبة تشكل جبهة الصدام المتقدمة للعالم بأسره. كل ما وافق عليه مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي من قرارات وضعها فلاديمير بوتين، الذي أثبت إمَّا أنه لاعب ومناور سياسي بارع، في سلة المهملات، فالسياسة بالنسبة للرئيس الروسي هي ليست فنَّ الممكن، وإنما تحايل واستدراج خصْمك إلى الدائرة والوضعية التي تريدها فتستغلَّ تردده وضعفه وتوجه إليه اللكمة التي إنْ لم تكن قاضية، فإنها ستجعله يرفع يديه ويستسلم ويوافق، على كل ما تريده. كان الاعتقاد أنَّ الأميركيين قد أرخوا الحبل للرئيس فلاديمير بوتين وسكتوا سكوت الأذلاء عن تدخله العسكري الفج في سوريا ليورطوا روسيا، المنهكة اقتصاديًا والتي لا تزال تعاني من أوجاع كثيرة منذ انهيار التجربة الشيوعية الفاشلة في بدايات تسعينات القرن الماضي، في مستنقع أسوأ وأخطر كثيرًا من ذلك المستنقع الأفغاني الذي غرق فيه الاتحاد السوفياتي فكانت نهايته القاضية التي لم ولن تقوم له بعدها قائمة وإلى أن يرث الله - جلَّ شأنه - الأرض وما عليها. ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة أن تجارب التاريخ قد علَّمت من لديه القابلية للتعلم أنه على من يريد استدراج خصمه إلى الوضعية التي يريدها للقضاء عليه أنْ يبقي على كل الخيارات في يده وألا يترك خيارًا واحدًا في يد هذا الخصم.. فهل هذا ما فعلته هذه الإدارة الأميركية التي طبَّقت مقولة لينين: «خطوة إلى الخلف من أجل خطوتين إلى الأمام» بصورة معاكسة، فهي قد قامت ليس بخطوة واحدة إلى الخلف وإنما بعشرين خطوة مقابل ولا «بوصة» واحدة إلى الأمام وتركت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يلعب ويتلاعب ليس في الميدان السوري والساحة السورية وفقط، وإنما في الشرق الأوسط كله كما يشاء فجاءت النتيجة هذه القرارات الضبابية الهزيلة فعلاً والمخجلة حقًا التي اتخذها مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة الماضي تحت عنوان: «حلَّ الأزمة السورية» والتي لن يطبق منها ولا قرار واحد، إذ إن تطبيق مثل هذه القرارات يتوقف على موازين القوى العسكرية في ميادين المواجهة وليس الاستجداء والتخاذل والإصرار على أشياء في الصباح والتخلي عنها حتى دون أي نقاش في المساء. وفقًا لقرار مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي كان يجب أن تكون هناك تهدئة تمهيدًا لوقفٍ لإطلاق النار وخلق الأجواء اللازمة المفترضة للبدء في تطبيق القرارات الأخرى ومن بينها تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي ستتولى كل صلاحيات الحكم خلال المرحلة الانتقالية المتفق عليها لكن هذا لم يحصلْ بلْ إن الرئيس بوتين كان قد سارع إلى وضع العربة أمام الحصان عندما بادر إلى إطلاق تصريح استفزازي، عشية مؤتمر نيويورك (العتيد) الذي تحولت قراراته إلى قرارات لمجلس الأمن الدولي، قال فيه: إنَّ القوات الروسية على الساحة السورية سوف تواصل القتال ما دام الجيش السوري يواصل عملياته القتالية. إنَّ هذا هو ما كان قبل مؤتمر نيويورك وقبل أن تتحول قراراته إلى قرارات لمجلس الأمن الدولي، أمَّا بعد ذلك فقد أطلق الرئيس بوتين تصريحًا جديدًا خالف فيه كل ما تضمنته هذه القرارات الآنفة الذكر جاء فيه: موسكو ستبقى مع بقاء الأسد حتى إجراء الانتخابات (السورية) الجديدة.. إن الأسد هو من يقرر ما إذا كان سيرشح نفسه لهذه الانتخابات المقبلة أمْ لا.. فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن الرئيس الروسي يقول للأميركيين، إنه صاحب القرار النافذ، وإن القرارات الدولية لا قيمة لها، وإنه ليس أمامكم: «إلا أنْ تنقعوها وتشربوا ميِّتها (ماءها)»!! وبالطبع وبما أنَّ حكام طهران قد أصبحوا مجرد أبواقٍ تردد ما يقال في موسكو، فقد بادروا بدورهم إلى إعادة القول الذي قاله بوتين آنفًا مع إضافة من قبل حسن روحاني قال فيها: إنه لا حديث عن الديمقراطية (في سوريا) ما دام أن الإرهاب موجود وما لم تتوفر الظروف لعودة المهجرين (السوريين) إلى وطنهم، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس الإيراني لا يقصد بالإرهاب لا «داعش» ولا «النصرة» ولا حراس الثورة والميليشيات المذهبية، التي جرى استيرادها من كل حدب وصوب لتذبح الشعب السوري وتخمد ثورته، ولا حزب الله اللبناني وإنما المعارضة السورية (المعتدلة) التي شاركت في مؤتمر الرياض الذي حقق إنجازًا تاريخيًا بتوحيد هذه المعارضة وجمعها على أرضية برنامج الحد الأدنى الوطني الذي يشكل القاسم المشترك بين قوى وتنظيمات وتشكيلات الثورة السورية السياسية والعسكرية. وهكذا.. وإنما يؤكد أنَّ في ذهن فلاديمير بوتين «موالاً» غير «موال» قرارات مؤتمر نيويورك التي تحولت إلى قرارات لمجلس الأمن الدولي أن القوات الروسية (المحتلة) قد فاجأت الأميركيين، وكل الذين حضروا اجتماع نيويورك الآنف الذكر، بأنْها بادرت وبالتزامن مع الغارة الإسرائيلية على «جرمانا» التي قُتِلَ فيها منْ يوصف بأنه «القائد الميداني في حزب الله» بتصعيد غير مسبوق شنت خلاله قاصفات الـ«سوخوي 24 و34» غارات مدمرة فعلاً على عدد من القرى والتجمعات السورية في ريفي حلب وإدلب أسفرت عن استشهاد وجرح العشرات من السوريين الأبرياء غالبيتهم من الأطفال والنساء. ثم ومما زاد الطين بلة، كما يقال، أن روسيا من قبيل المزيد من التحدي والمزيد من التصعيد والمزيد من التأكيد على وضع قرارات مؤتمر نيويورك الأخير في سلة المهملات قد بادرت في ظل هذه الأوضاع السورية الملتهبة إلى إعلان فرض حظرٍ غذائي على أوكرانيا مما يعني أن الرئيس فلاديمير بوتين مصمم على إذلال الأميركيين ما دام هناك مثل معروف يقول: «من يهن يسهل الهوان عليه» وما دام فلاديمير ألتش لينين قد قال: «إنك إنْ تراجعت أمام الخصم خطوة فإنه سيضاعف ضغطه وهجومه عليك لتتراجع أمامه عشرات الخطوات»!! إنَّ من قَبِلَ بقرارات مؤتمر نيويورك الضبابية، غير القابلة لا للإعراب ولا للتنفيذ، التي حولها الروس بشطارتهم ومناوراتهم البارعة إلى قرارات لمجلس الأمن الدولي، عليه أن يدرك أنه هو من شجع فلاديمير بوتين على هذا التصعيد.. والسؤال الذي يجب توجيهه الآن وبعد كل هذه التطورات إلى الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري هو: ما الذي أصابكم.. وكيف تقبلون بقرارات، بائسة ووهمية سلفًا، غير قابلة للتطبيق؟! لقد أراد الروس باللجوء إلى كل هذا التصعيد العسكري والسياسي الذي لجأوا إليه، حتى قبل أن يجف حبر قرارات مجلس الأمن الدولي الأخير، خلق وقائع جديدة على الأرض وإلغاء هذه القرارات وفرض قرارات جديدة على أساس أن المنتصر على الأرض هو مَنْ يفرض القرارات.. وحقيقة فإن السكوت عن كل هذا الذي يفعله الروس سيغريهم للقيام بالمزيد من التصعيد والمزيد من التحدي ومرة أخرى: إن من يهن يسهل الهوان عليه!