بقيام أكاديمية العلوم والفنون السينمائية، في السابع عشر من هذا الشهر، بإعلان قائمتها الرسمية الأولى للأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، تكون المرحلة الثانية من المنافسة على تلك الجائزة قد بدأت. كما بات معلوما لمتابعينا، فإن المرحلة الأولى هي تلك التي تقدم فيها الدول المعنية بتوفير تسمياتها من الأفلام التي تراها مناسبة لدخول السباق الكبير. وهذا العام تم قبول 80 فيلما من 80 دولة (يعرض مهرجان «بالم سبرينغ» المقبل مطلع السنة الجديدة نصفها)، شاهدها مئات الأعضاء وانتخبوا منها تسعة أفلام تمهيدا للمرحلة الثالثة والأخيرة، وهي انتقاء خمسة أفلام من هذه التسعة. هذه القائمة الثالثة والأخيرة تعلن في سياق كل الترشيحات الأخرى وذلك في الرابع عشر من الشهر المقبل. كل الأعضاء، الستة آلاف أو نحوهم، عليهم مشاهدة هذه الأفلام الخمسة لانتخاب فيلم واحد في الحفلة الـ88 لجوائز الأوسكار. * صحراء وغابة وإذ أعلنت القائمة الرسمية الأولى الحاوية لتسعة أفلام، فإنه تم حصر كل ما تقدّم إلى الأكاديمية من اختيارات في نطاق أفلام محددة ينتمي كل منها إلى بلد يجرب حظه مجددا أو للمرة الأولى. لكن المفاجأة السارة حتما هي وصول فيلم «ذيب» الذي مثل الأردن إلى هذا الصف ما قبل النهائي، وهو الفيلم الذي انطلق قبل أكثر من عام عندما عرض في مهرجان «فينيسيا» وحظي بجائزة «مسابقة آفاق جديدة». يتناول الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج ناجي أبو نوار قصّة ذلك الولد البدوي الذي يصاحب شقيقه الأكبر سنا في رحلة محفوفة بالمخاطر خلال حقبة الاحتلال العثماني عندما كانت بريطانيا تحاول زعزعة هذا الاحتلال. جندي بريطاني متخفٍ ينقل صندوقا أسود فيه متفجرات ستزرعها القيادة التي يقصدها تحت قطار تركي محمّل بالذخيرة والجنود. الشقيقان معه، ومع معاونه البدوي أيضا، لكي يدلاهما على الطريق. فجأة تظهر عصابة من قطّاع الطرق وتقع معركة يسقط فيها الجميع قتلى باستثناء رئيس العصابة والولد، بطل الفيلم. يستولي الرئيس على الصندوق ويتوجه به صوب المسؤول العسكري البريطاني لبيعه. ينتظره الصبي لحين خروجه ويطلق عليه النار انتقاما لمقتل أخيه. الدراما التي يصوغها المخرج ببراعة تحمل مؤثراته السينمائية: قليلا من الوسترن، الكثير من حس المغامرة، وقدرا لا بأس به من حسن توليف أجواء المكان والشخصيات وتتبع مساراتها العاطفية كما الحدثية. هذا الفيلم هو أحد فيلمين من التسعة المرشّحة آتيين من خارج الدول الأوروبية. الثاني هو فيلم كولومبي بعنوان «احضن الثعبان» لسير غويرا. وإذا كان فيلم أبو نوار يستفيد جيدا من البيئة الصحراوية حيث تدور القصّة، فإن فيلم غويرا يستفيد بدوره، لكن على نحو أكبر حجما، من الغابات المترامية لمنطقة الأمازون الكولومبية كما يلتقطها مدير التصوير ديفيد غاليغو ببراعة. «احضن الثعبان» فيلم يحتاج لمثل هذا التصوير الرائع، (بالأبيض والأسود والألوان معا) كونه يدور حول رحلة بحث يقوم بها أوروبي جاء لغاية. إنه رحالة ألماني (جان بيفووت) معروف عنه تعصبه لقومه ومعاملته العنيفة للمواطنين الأصليين. رغم ذلك، سيقوم أحد هؤلاء المواطنين، ولو كرها، بمعاونة الرحالة الأبيض بالبحث عن نبتة تشفيه من المرض الذي ألمّ به. خلال الرحلة سيصلان إلى قلب الأمازون ومن يعيش فيه. سيدرك الأبيض شيئا عن الثقافة الخاصّة التي كان يعتبرها شيئا لا قيمة له وسيعرفنا الفيلم على المجابهة غير المتساوية بين البيض والمواطنين الأصليين متمثلة برجل الكنيسة الأوروبي الذي أسس مستوطنته وعامل الأولاد فيها كرعايا يحق له معاقبتهم حين يخطئون. كل هذا والأحداث تقع في مطلع القرن العشرين أيام ما كان للأمازون وجود أكثر حضورا مما لحق به في السنوات الخمسين الأخيرة من تحوّلات سببها الاستثمارات الصناعية فيه وقطع أشجاره وتغير مناخه. * واقع شاوول وسوريالية سواه باقي الأفلام وردت من بلجيكا («ميثاق جديد» لجاكو فان دورمايل)، والدنمارك («حرب» لتوبياس ليندهولم)، وفنلندا («الحاجز» لكلاوس هارو)، وفرنسا («موستانغ» لدنيز غوميز إرغوفن)، والمجر («ابن شاوول» للازلو نيميش)، وآيرلندا («فيفا» لبادي برثناك)، وألمانيا («متاهة من الأكاذيب» لغويليو ريكياريللي). الأقوى بين هذه الأفلام، والأكثر شعبية بين ما شاهده النقاد الأميركيون منها، وهم لم يشاهدوها كلها، هو الفيلم المجري «ابن شاوول»، الدراما القاسية حول عامل من العمّال اليهود الذين عهد إليهم بمهمة إعداد أترابهم من اليهود المتوجهين إلى المحرقة، خلال الحرب العالمية الثانية. بطل الفيلم، شاوول، يسعى للبحث عن حاخام ليصلي على فتى يعتقد شاوول أنه قد يكون ابنه. إن لم يكن فهو عامله كما لو كان. المخرج نيميش يتابع شخصية شاوول بلا هوادة. يضع الباقين في بؤرة غير واضحة ويحرك بطله بوضوح لكن بحس متعب. هناك ضوضاء شديدة وشريط صوت يجمع كل ما يمكن حشوه فيه من أصوات الأفران إلى أصوات القباقيب التي يرتديها شاوول ومن معه مرورا بأصوات الضحايا. لكن من خلال كل هذه الفوضى المنظّمة ينجز المخرج ما سعى إليه من تأثير عميق في ذوات مشاهديه. عرض هذا الفيلم في مهرجان «كان» في ربيع هذه السنة، كذلك المتسابق الآخر «ميثاق جديد» (Brand New Testament) لجاكو فان دورمايل. هذا فيلم آخر غريب الشأن من مخرجه الذي يدمج أفكاره الجديدة بما يناسبها من مواقف غير متوقعة. الكثير من الهرج يدور نتيجة ذلك، لكن أفلامه، في نهاية المطاف، تنزوي من دون أثر كبير. «ميثاق جديد» يدور في رحى المستقبل القريب، أو لعله عالم مواز فيه ذات الشخوص والمدن وأنواع الحياة إنما فوق كوكب آخر. الفكرة سوريالية بالكامل وتدور حول رجل عيّن نفسه ربّا للناس جميعا يحتفظ في قاعته التي لا يدخلها أحد سواه بملفات لكل سكان البلد. ذات يوم يمارس لعبة سادية إذ يرسل رسائل هاتفية للناس يعلم كل منهم فيها بالوقت الذي سيموت فيه. الخوف والقلق اللذان يقعان نتيجة ذلك تبددهما، على مراحل، ابنته الصغيرة التي تسرق قدراته وتحوّلها لصالح البشرية. * حروب وتواريخ الفيلم الخامس من هذه الأعمال هو «حرب» للمخرج الدنماركي توبياس ليندهولم: دراما تقع في زمانين يتناصفان الفيلم: الأول هو رحى الحرب الأفغانستانية، والثاني عودة المجنّد الدنماركي إلى عائلته وقد تغيّر تبعا لما وقع له خلال المعارك هناك. هذا ليس أول فيلم إسكندنافي يتعامل مع الحرب الأفغانستانية، لكنه الأكثر إمعانا في التأكيد على ضراوة التجربة المخاضة، علما بأن الموضوع ذاته ليس جديدا نسبة لما سبقه من عمال. من الدولة المجاورة، فنلندا، يأتي «الحاجز» ليتحدث عن تجربة مريرة أخرى تعيشها شخصيات الفيلم. فالأحداث هنا تقع في تلك الفترة التي بسطت فيها الدولة السوفياتية حكمها لتشمل إستونيا ولتضمها إلى اتحادها. هناك حس من المغامرة في أحداث تنطلق من عام 1953 وتمتد لما بعده. وعن الماضي وتبعات الحروب والاحتلالات يتحدث «متاهات من الأكاذيب» لغويليو ريكياريللي، وهو ممثل ينتقل إلى الإخراج هنا، عن الحقبة التي تبعت، مباشرة، نهاية الحرب العالمية الثانية ومحاولة بطله الاقتناص من مجرمي الحرب الألمان لمحاكمتهم. ويتحدث «فيفا» الآتي من آيرلندا عن معضلة اجتماعية – عائلية، ولو أن المخرج الجديد بادي بريثناك ينتقل بحكايته إلى كوبا معظم الوقت. صراع إثبات وجود للممثل بطل الفيلم ضد والده المتعسف من قبل أن يتصالحا حالما تدخل امرأة جميلة حياتهما. ويتناول «موستانغ»، للمخرجة الفرنسية ذات الأصل التركي دنيز غوميز أرغوفن حياة خمس بنات شقيقات يمررن بالمرحلة الصعبة من الحياة. هن شابات طامحات والمجتمع التقليدي يقيدهن والانفجار العاطفي محتمل. وصول هذه الأفلام إلى المرحلة ما قبل الأخيرة يعني أن أعضاء الأكاديمية الذين انتخبوها مرّوا على أفلام أخرى (بعضها جدير أكثر من تلك الواردة هنا) من دون ما يكفي من الإعجاب. أحد هذه الأفلام التي تم إغفالها «المُغتالة» التايواني لهاو سياو سيين، والفيلم البرازيلي «الأم الأخرى» لآنا مويلارت، وهو نال مؤخرا ثماني جوائز من مهرجانات ومناسبات، كذلك الفيلم السويدي «حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود» لروي أندرسون، وهو نال الجائزة الذهبية في مهرجان فينسيا العام الماضي.