رحل الآن شاعر الأغنية الشعبية أحمد فؤاد نجم (1929-2013م) تاركاً خلفه ذاكرة فنية غنائية من مفردات الشارع، كما رحل قبله ملحن قصائده ورفيق دربه الموسيقي الشيخ إمام الذي نسج ألحانه من إيقاع قلوب الناس الغلابة و"دندناتهم" المنطلقة على السليقة، والموقَّعة على فوران صدورهم غضباً، ونشدان أحلامهم أملاً. وقبلهما كليهما أَفُلت مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، حين ائتلقت أغنيات الثنائي نجم-إمام المجبولة بالقضايا السياسية، والمحمّلة بهموم الناس البسطاء وأوجاعهم وفقرهم وأحلامهم بأوطان أكثر عدلاً، وأصدق استقلالاً وطنياً، وأكبر مقاومة للغزاة والدول الاستعمارية الطامعة. لقد كانت أشرطة أغانيهما في حوزة معظم الناس لا بصفتها بطاقات انتصار وانتساب إلى "الغلابة" وحقّهم في الدفاع عن حرياتهم ولقمة عيشهم وكرامتهم في بلدانهم العربية المتعددة فحسب، وإنما كانت أيضاً تعبيراً عن انتماء صميم لحركة تحرر وطني، شهدت ذروة مدّها في تلك المرحلة، على غرار مدّ حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وبهذا المعنى، فظاهرة إمام-نجم هي ظاهرة مركَّبة من معطيين: معطى إبداعي تمثّل في كلمات شعر نجم المستلة من الشوارع والبيوت الفقيرة والحسّ الشعبي والأمثال الدارجة، بل وحتى من التعابير "البذيئة" التي تداولتها العامّة ضد الظالمين لهم والسارقين لقوتهم اليومي، ومن ألحان الشيخ إمام لتلك القصائد والكلمات على إيقاع أناشيد متاخمة للقلب واللسان، مفجّرة للمعاني والأحاسيس، سهلة الحفظ والترداد، حماسية متحدّية، وحنونة ذائبة. ومعطى سياسي تجلّى عبر مرحلة نهوض، وطني وعالمي في آن، تطلّبت مواكبة ومرادفاً فكرياً أدبياً وفنياً، سواء من خلال النشاط النضالي والتنظير الثوري، أو عبر مختلف أشكال وألوان التعبير الأدبي والفني على صعيد الأغنية السياسية، كما على صعيد المسرح، والسينما، والشعر، وما إلى ذلك. وفي آن معاً، بقدر ما أسَّست المرحلة السياسية لنشوء تلك الظاهرات في الأدب والفن، وحضّت عليها، وأفسحت لها في المجال للتداول والانتشار، بقدر ما أسهمت النتاجات الإبداعية والمذاهب الأدبية والفنية في التعبير عن تلك المرحلة، ودعمها، وتحشيد أكبر عدد ممكن من الناس حولها، بحيث بات الأمر أشبه بالأواني المستطرقة فيما يخصّ العلاقة المتبادلة، المتفاعلة، والحيّة بين المعطيين. يمكن الاستدلال على هذا من أن أي ندوة سياسية تُعقد في تلك المرحلة كان يجتمع لها من الحضور ما تغصّ القاعة بهم، وما يتردد صدى موضوعها على مدار أيامٍ. وكان أي عرض مسرحي يجذب الجمهور -كفعل النور للفراشات- ويُلهب الصالة حتى ليكاد الجمهور يتداخل بتعليقاته مع العرض وما يطرحه. وغدت صالات العرض السينمائية-على غير ما خُصّصت له- قاعات يُدعى إليها المخرج أو الكاتب وبعض الممثلين لعقد حوار معهم ومناقشتهم بعد الفيلم من قِبل من تصادف وجوده من المشاهدين. والأمسيات الشعرية التي كانت تُقام شكَّلت ملتقى بديعاً، وموعداً لا يُخلف لعشّاق الأدب، فيما كان يستعد القاص أو الشاعر لها كما ليوم امتحانه. وأذكر فيما يخص إمام-نجم (وقد شكّلا ظاهرة فنية بحق) أنهما أقاما أمسية غنائية تدفق إليها، واحتشد لها من جمهور دمشق ما يخال معه الرائي أن مظاهرة عمّت الشوارع وليس مجرد راغبين بحضور أمسية غنائية! حتى أنني ما زلت أذكر كيف شغل الحضور المنصة وملأها بحيث لم يتبقَ لهما سوى فسحة صغيرة جداً. واليوم يتساءل المرء: ما الذي يمكن أن تفعله، أو تؤثر به، أو تحرِّكه أغنيات من طراز: "شرفت يا نيكسون بابا، يا بتاع الووتر غيت" أو "يا هوى الأحلام يا عزّة" أو "حي الزمالك مهالك مهالك" أو غيرها الكثير؟ ما موقع أغنيات كهذه لدى الناس، ومنذ التسعينيات إلى اليوم، وما حظوظها من الحياة والانتشار والاستمرار بينهم؟ بل ما حظوظ ومواقع أغنيات كالتي غنّاها عبد الحليم حافظ يوماً، وقلبت الدنيا في مرحلتها، مثل "خلّي السلاح صاحي" أو "أحلف بسماها وبترابها"؟ ثم، ما الذي آلت إليه العروض المسرحية كمّاً من جهة، وعلاقةً مع جمهورها من جهة أخرى؟ ما حال صالات السينما، ومشاهديها، وأصداء أفلامها، وطقوس مشاهدتها؟ ما أعداد حضور الأمسيات الشعرية والقصصية رغم الاتصالات الشخصية من قبل الكاتب نفسه للحث على المجيء؟ ما واقع الكتاب العربي، ومبيعاته، وأحوال القراءة، والجلسات التي كانت تُخصّص في الماضي للحوار في الإصدارات الجديدة؟ عشرات الأسئلة، وعشرات التساؤلات الحائرة، راحت تُطرح منذ عشرين عاماً أو يزيد على الكتّاب والفنانين ومختلف المشتغلين في الحقول الثقافية والإبداعية وعلى المؤسسات والهيئات والمراكز الثقافية من دون أن تعثر على إجابات تحل اللغز. ما من ألغاز، في اعتقادي، وما من "مثلث برمودا" المحيّر! فثمة شيء أو أشياء كثيرة، تغيرت في حيواتنا. ثمة مراحل تبدّلت أو انقضت. ربما كانت مجتمعاتنا في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات مترعة بالآمال العريضة، وربما كان الواقع -السياسي بالدرجة الأولى- مفعماً باحتمالات الولادة، واحتمالات النهوض، واحتمالات التغيير. ربما كان الممكن يانعاً، والحميّة متأججّة فينا، والدهشة ما زالت نابضة، والتوق على أشدّه كوتر القوس، ثم تعرّى الممكن عن استحالة، وخمدت الحميّة جراء الخيبات، ووهنت الدهشة، وبهت التوق وتراخى. ثمة ما تغيّر اليوم، عمّا كان عليه بالأمس القريب. الأمس الذي عاش فيه أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وأبدعا، وشكّلا ظاهرة الأغنية السياسية أو الملتزمة أو الوطنية، أو أيّاً كان اسمها. الأمس الذي هيّأ لهما الأرضية والمناخ ليشكّلا ظاهرة، فأبدعا ورفداه بالجميل، المؤثر، والمميز الذي يصعب نسيانه. هل من شأن الربيع العربي اليوم أن يهيّئ المناخ والأرضية لتجلّي ظاهرات إبداعية، فنية وأدبية، تؤثر وتنتشر من جديد؟ إذا كان الوقت ما زال مبكرا جداً على طرح سؤال كهذا، فالأحرى الإجابة عنه.