على الطريق هكذا عنون الفنان زهير السعيد، معرضهُ الذي افتتح مساء الثلثاء (8 ديسمبر)، في جاليري البارح للفنون، وضم أعمالاً تركيبية، وتشكيلية، إلى جانب التقاطات عمد السعيد لعرضها كما هي، من الطريق إلى فضاء قاعة العرض.. هذه الالتقاطات التي تعتبر في عرف الناس، عادية، وهامشية، ليست كذلك عندما تقتنصها عينا زهير، الذي يتصيدُ الجمال في كل موطن ومكان. في هذا المعرض، أعمال تتفاوت في الاحجام، وخامات تتنوع بين الكنفس، والخشب، والألوان، والإطارات المهترئة، والحبال، وقطع الأرصفة، وحواجز السير، وكل ما جمعهُ السعيد خلال رحلة بحثه اليومية عن الجمال الهامشي على الطريق.. إذ يؤكد في حوارهِ معنا، أن الفنان الحقيقي هو الفنان الباحث ويضيف مبيناً أن معرضهُ هذا نتاج مشروع، وليس محض صدفة. مواطن الجمال في الهامشي يحاول الفنان السعيد، خلال حياته اليومية، أن يسلط الضوء على كل مواطن الجمال الموجودة حولنا، إذ أن هناك جمالا مفقودا أحاول تقديمه كما يقول، ومعرضهُ على الطريق هو إعلان من قبلهُ للهيمنة على جميع ما هو موجود وهامشي على هذا الطريق، الذي لا يعتبرهُ طريقاً للعبور فقط، بل هناك مشاهدات، يتوجب علينا التوقف عندها، فهي في حد ذاتها أعمال فنية من الممكن أن تنفذ لو أتيحت لها لفرصة. ولا ينحصر مفهوم هذا المعرض في إطار التقاط الجمال الهامشي، بل يمتدُ إلى جوانب شخصية تلامس روح السعيد، فهذا المعرض هو بمثابة تكريم لضحايا حوادث السير، خاصة اللوحة التي تعد أكبر اللوحات فيه، والتي تمثل خطوط المشاة، يتخللها خط أحمر، يرمزُ للدم.. إذ أني فقدتُ أختي في منتصف التسعينيات، بسبب حادث سير على الطريق الفاصل بين منطقتي العكر والمعامير، هذا الطريق الذي يكنى بـ (طريق الموت)، لمسؤوليته عن فقدان حياة العديد من المواطنين والمقمين. الإيجابي من صميم السلبي مساحة الهامشي والعشوائي كبيرةٌ في حياتنا، إلا أن هذه المساحة مليئة بالجمال، كما يؤمن السعيد، وعند ذلك توقفتُ لأسألهُ عن كيفية استحضار هذا الهامشي من الطريق إلى دور العرض؟ فأجاب: أريد وفق فلستفي ومنهجيتي أن أؤسس إلى طريقة، أبحث من خلالها عن خصوصية وتميز، بعيداً عن الآخرين، فأنا كفنان أبحث عن خصوصية فنية تميزني، وتقدم رؤية فنية مغايرة لما هو سائد، ويتابع الناس تحب اللوحة بخاماتها الأنيقة والجميلة، إلا أنهم سيفهمون، مع الوقت، أن لأعمالي قيمة، تكمنُ في البحث عن الآثر الذي يتركهُ الإنسان في البيئة، وعنهُ في القمامة، والنفايات، وغير ذلك. ويواصل مؤكداً أن اشتغالهُ يصب في صلب خلق حالة إيجابية من حالةٍ سلبية، وذلك عبر إعادة صياغة الأشياء، وكسر المألوف. ولا يقتصر مشروع السعيد لتحقيق هذا الهدف على إقامة معرض واحد، بل يمتدُ لسلسة من المعارض التي تصب في ذات السياق، فهو من خلال هذا المشروع يقدم الصور الجمالية التي يلتقطها، ويوظفها في أعمال فنية حقيقية، تعلق في الجالريهات، ويمكن أن تبنى عليها فلسفة جديدة وقراءات متعددة كما يبين، فهو يعيش حالة ارتباط بينهُ وبين الأشياء من حوله: فـ الأشياء تخاطبني وأنا اسير، وتدعوني لالتقاطها.. كل شيء يحدثني وأنا انتقل بين طريقٍ وآخر. ويعقب الفنان الحقيقي هو فنان قلق تجاه ما يقدمه، وعندما أؤمن بأن الفن هو أسمى رسالة للإنسانية، فيجب أن تكون أعمالي صادقة، ومرتبطة بالواقع، ومساهمة في إثراء الحياة الفكرية والثقافية للناس. الجمال من حولك ليس من طريق يخلو من الفن، هذا ما يؤمن به السعيد، ويريد إيصالهُ للمتلقي، هناك فن في الشارع، على الجدران، في الحجارة، على حاويات القمامة... الجمال موجود في كل مكان، لكنهُ من نصيب المتأملين كما يقول جبران خليل جبران، وما عليك إلا أن تسير وتتأمل هذا الجمال من حولك. يتعمق قليلاً ليؤكد لنا أن الأشياء على الطريق هي من صميم اشتغال التجريديين، والحداثيين، فوظيفة الفنان تقديم الجمال للناس، وأنا أريد أن ابحث عن مسار آخر، يميزني عن بقية المشتغلين في المنطقة. ومن هذا المنطلق وظف زهير كل الأشياء التي وجدها... أشياء تبدو هامشية، بكل ما للكلمة من معنى، لكنها، وبنظره، تحملُ قصة لا بد أن تروى للمتلقي، هذه المشاهد يتوجب أن تخلق صدمة ليتوقف عندها المتلقي، ويتأملها، إذ أن للطبيعة والناس تأثيرا على كل شيء من حولهم، وهذا التأثير يخلق بالضرورة جمالية للأشياء، وما عليك كفنان سوى أن تمتلك العين الرائية والملتقطة لهذه الجمالية. وقد استطاع زهير تحقيق هدفهُ، إذ أثارت الأعمال العديد من زوار المعرض، ولاقت استحسانهم وإطراءهم.. وهذا ما أملتُ تحقيقه: صدمت المتلقي، وإثارته، فذلك الشيء الذي لا يعد شيئاً يذكر عندما كان مرمياً على الطريق، أضحى يصدم المتلقي من خلال مواطن الجمال التي يختزلها. الهروب من النمطية إلى الفرادة يحرص السعيد على أن لا يكون نمطياً من خلال أعماله، فهو كما يقول، يعرف لماذا يمارس الفن، فالفن هو مشروع حياتي، وأنا نذرت عمري له، ولا يمكن أن يكون فني عبثياً، بل هي تجارب نابعة من عاطفة صادقة، وإحساس حقيقي، ومسؤولية تجاه ما أقدمه... ولا يتم ذلك إلا بالاطلاع، والقراءة، والبحث، والتجوال، الذي يؤهلني لتقديم شيء يتجاوزني إلى فضاء الوطن والمنطقة. زهير السعيد بذلك يريد أن يقول: إن هناك فنانا مجتهدا ومكافحا يبحث عن خصوصيته.. ومن يبحث ويكافح يصل إلى نتائج تفوق أقرانه، حتى من لهم الأقدمية في هذا المجال. لكن كيف يكون ذلك؟ يقول السعيد: أنا لا أؤمن بأن الفن للفن، ولا اعتقد بفصل الفن عن القضايا التي تمس الناس، فأنا أقدمُ فناً جاداً، وما يقدم في هذا الإطار، هو إرث إنساني، يسردُ لي أمثلة حول ارتباط الفن بقضايا الإنسان، ليؤكد أن الفن، ومنذُ نشأتهُ الأولى، وحتى يومنا الحاضر، يرصد القضايا ويتناولها، لهذا لا يمكنني أن أنفصل عن واقعي، وعن كل ما يحيط بي، فأنا كفنان يتوجب علي توجيه الناس إلى قضايا معينة، ولفت أنظارهم إليها. الفن لا بد أن يرتبط بمبدعه من منطلق إيمانهِ بما يقول سألتهُ أن يتوسع في الحديث عن أكبر أعمال معرضه، والذي يصور لنا خطوط المشاة، المرسومة بشكلها الاعتيادي، لكن خطاً منها يتخذُ اللون الأحمر، تعبيراً عن الدم، وقد وضع أمام العمل، إطارا ضخما، متشذبا، فأخذني إلى العمل، وأخذ يبين لي بأنهُ يرتبط بحالة إنسانية عاشها خلال مراحل حياته، إذ روى أن هذا العمل هو تكريم لكل ضحايا الطريق في المملكة وفي العالم، بشكل عام، وهو بشكلٍ خاص، يرتبط بصفة خاصة بذكرى رحيل أختي على (شارع الموت)، هذا الشارع الذي أخذ أرواح العديد من الأشخاص، وأبقى أخرين على كراسيهم المتحركة، لهذا كنا وما نزال نناشد بأن ينشأ جسر مشاة، يقي الناس خطرهُ.