من المظاهر الظريفة في بغداد طيور اللقالق التي كانت تبني أعشاشها وتربي فراخها شتاء على منائر بغداد وقبب الكنائس. هكذا كانت تفعل لألوف السنين. كانت تفعل ذلك على برج بابل وبرج عقرغوف، ثم تحولت إلى مآذن الجوامع بعد دخول الإسلام. وقد ورثنا هذا الاسم من السومريين الذين سموها «لقلاقو». أثار منظرها الغريب بجسمها الكبير الأبيض وأرجلها الطويلة ومنقارها الضخم كثيرا من الحكايات والطرائف والأساطير. حتى المرأة الغربية تجيب عن سؤال طفلها: من أين أتيت؟ فتقول له جاء بك لقلق وأنزلك هنا. وهكذا نراهم يهنئونك عندما تُرزق بطفل ببطاقة ظريفة عليها صورة لقلق يطير بطفل محلقًا في الهواء. ولكنها قلما تظهر في هذه الأيام في بغداد. وقد أثار غيابها كثيرًا من التعليقات. قال أحدهم تعيش اللقالق على الحبوب، لكن لا حبوب هناك اليوم، فلم يعد الفلاح العراقي يزرع أي شيء. وقال آخرون هذه الطيور تأكل من فضلات الطعام. ولم يعد بيد الأسرة العراقية من الطعام ما يكفي لتعطي فضلاته للطير. وعزا أحدهم هذه الظاهرة - هجرة اللقالق من بغداد - إلى تركيب مكبرات الصوت على المآذن. قال من يومها هجرت بغداد ولم تعد إليها. وقبل ذلك، اعتادت اللقالق على بناء أعشاشها على مآذن مساجد صوب الرصافة (الجانب الشمالي من نهر دجلة)، ولم تعبأ بمآذن صوب الكرخ (جنوب النهر). أثار ذلك تفكير كثير من البغداديين. ففي تلك الأيام لم يكن هناك كثير مما يثير تفكيرهم. وكان البنا أبو داود ممن شغلتهم الظاهرة. روى لي حكايته، أستاذي الجليل حقي الشبلي، عميد معهد الفنون الجميلة، عند زيارته لي في لندن. كان الأستاذ حقي يسكن بيتًا شرقيًا تقليديًا في منطقة الحيدرخانة. اعتاد الجلوس مساء في شناشيل البيت المطل على الزقاق. ينصب مائدته من مقبلات وشراب، يأكل ويشرب ويتفرج على المارة. ما إن يحل منتصف الليل حتى يلوح أمامه منظر الأُسْطى أبو داود يترنح شمالاً ويمينًا، وقد خرج من إحدى مايخانات شارع الرشيد. يقف أمام الشناشيل، يفك طاقيته ويلقي بها على كتفه وينطلق بالغناء للأستاذ حقي، قفل قفلين من المقام العراقي الذي كان الأستاذ حقي من عشاقه والمتذوقين له. ما من أحد يجيد أداء المقام كأسطوات البناء في العراق. ثم يعيد طاقيته على رأسه وينصرف.. «تصبح على خير أستاذ حقي». «وانت من أهل الخير أبو داود. تسلم حنجرتك». ويمضي الأُسْطى إلى منزله مواظبًا على هذا التقليد. بيد أن الأستاذ حقي افتقد دور البنا، فلم يعد يتوقف عنده ويرفع عقيرته بالغناء. استوقفه يومًا وسأله عن خطبه وما قد ألم به: «أستاذ حقي أنا عندي مشكلة شاغلة بالي. هذي اللقالق ليش تعشش على مناير صوب الرصافة وما تروح لمناير صوب الكرخ؟ اعطيني جواب حتى أرجع أغني لك». لم يحر أستاذي بجواب، لكنه وعد الرجل بالجواب الشافي الوافي قريبًا. قضى الليل ساهرًا يفكر دون نتيجة، فقرر استشارة المختصين. وهو ما سنسمعه منهم في مقالتي المقبلة.