حتى الآن لم يكتشف أحد سر الأسلوب، وأجمل تعريف قرأته له هو أنه صوت الكلمات على الورق. محصول الكلمات واحد عند كل الكتاب تقريبا، الفرق الوحيد بينهم جميعا هو في ترتيبها. لماذا تقرأ لكاتب فيرتفع بك في لطف فوق سحابة ناعمة، وتقرأ لكاتب آخر فتشعر بأنك تمشي في طريق موحل؟ من أين تأتي تلك الموسيقى الموحية التي لا يمكن فصلها عن المعنى المراد توصيله؟ ومن أين تأتي تلك القدرة على البساطة والوضوح؟ سأستشهد هنا بقصتين قصيرتين، لم يكتبهما كاتب واحد، بل هما من تأليف اللاوعي الجمعي للشعب المصري كله. إليك القصة الأولى: غراب سرق صابونة، فسألوه: سرقتها ليه.. لا هتاكلها.. ولا هتستحمى بيها؟!! فأجاب: أصل الأذية طبع. إن مدرسة التحليل النفسي بكل علمائها عاجزة عن شرح طبيعة العدوان بتلك القدرة الهائلة على التركيز والإبداع والوضوح. هي مسرحية متكاملة تنطبق عليها وحدات أرسطو الثلاث التي يعجز كبار مؤلفي المسرح عن الالتزام بها جميعا: وحدة النص، وحدة المكان، وحدة الزمان. وهذه الحدوتة الشعبية، التي هي أشبه بالسهم أو طلقة الرصاص أو البرشامة الصغيرة الشافية، تقول لنا لا تبحثوا عن منطق عقلي للأذية (الكلمة فصحى استخدمها ابن خلدون في المقدمة وهي أقوى بكثير من كلمة الأذى).. فالشخص العدواني المؤذي له منطقه الخاص، وهو الأذية للأذية، العدوان للعدوان. هناك بشر يلجأون للعدوان على الآخرين بدافع من الطبع والرغبة في العدوان في حد ذاته، أو كما قال أخونا الغراب في وضوح: أصل الأذية طبع. والقصة الأخرى عن العقرب التي وقفت على شاطئ الترعة تبحث عن وسيلة تنقلها إلى الضفة الأخرى، ثم شاهدت ضفدعة فقالت لها: يا عزيزتي الضفدعة.. تسمحي لي من فضلك أن أركب على ظهرك.. وتعدّيني البر الثاني؟ فقالت الضفدعة: آسفة.. أخشى أن تلدغيني. فقالت العقرب: هوه أنا مجنونة؟!.. هل هذا منطق؟ إذا لدغتك فستموتين وأموت أنا معك غرقا.. هل تتصورين أنني أريد أن أموت؟! حجة العقرب منطقية تماما، من المستحيل أن تلدغ العقرب الضفدعة، فمعنى ذلك أن تموت هي غرقا، لذلك وافقت الضفدعة على أن تلعب دور المعدية، وسمحت للعقرب بأن تمتطي ظهرها. أخذت الضفدعة تعوم في اتجاه الشاطئ الآخر، وفي منتصف الترعة تماما، لدغتها العقرب، فشعرت بالألم الشديد، وطاش صوابها فصاحت في العقرب: يا مجنونة.. كده تلدغيني؟.. ما هو كده هنموت إحنا الاتنين، أنا هاموت، وانت هتغرقي. ردت العقرب: إنت نسيتِ إني عقرب؟ العقرب ستلدغ، لأن طبعها أن تلدغ، طبيعتها أن تلدغ، لأن كيانها وكينونتها في أن تلدغ حتى لو فقدت حياتها جراء ذلك. في الحياة عموما وفي السياسة خصوصا، اللجوء للمنطق الصوري مهما كانت بساطته وقوته قد يعمي أعيننا عن الدوافع الحقيقية للسلوك العدواني عند بعض البشر. هذه هي الرسالة التي يرسلها لنا عقل الأجداد الجمعي من خلال قصتين قصيرتين، العقارب لا بد أن تلدغ في كل الظروف والأحوال، والغربان لا بد أن تسرق الصابون على الرغم من عدم احتياجها إليه لأن الأذية طبع.. على فكرة، هذا حديث عن كل أصحاب الأفكار المتطرفة. نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.