من الخارج وبعيداً من قراءة ما وراء الأرقام والتفاصيل، تبدو نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت أخيراً في مصر إيجابية للغاية، فلم يحصل تدخل مباشر من الأجهزة الإدارية أو تزوير ممنهج، ما يرسخ مبدأ النزاهة والشفافية، كما اختفت مظاهر العنف الانتخابي، ونجح ممثلو 19 حزباً فقط (من أصل 103 أحزاب) في دخول البرلمان بنسبة 43 في المئة من مجموع المقاعد، مقابل 57 في المئة للنواب المستقلين. ويتمتع البرلمان، بحكم الدستور، بصلاحيات غير مسبوقة لمنح الثقة للحكومة وتعديلها وإعفاء رئيسها، وإقرار حالتي الطوارئ والحرب، كما أن من حق البرلمان تعديل الموازنة وسحب الثقة من الرئيس بشروط صعبة. وراء الحقائق السابقة تكمن مجموعة من الظواهر، بعضها يتعلق بمدى شرعية تمثيل البرلمان القوى الاجتماعية والسياسية للمصريين كافة، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة في المرحلتين 28.3 في المئة من الناخبين، لأسباب كثيرة منها الانقسام والاستقطاب السياسي في المجتمع وتغييب السياسة وتراجع المجال العام، علاوة على عيوب قانون الانتخاب، ذلك كله سمح بحضور مؤثر للمال السياسي وارتكاب مخالفات في التغطية الإعلامية والحملات الدعائية للمرشحين، والمفارقة أن اللجنة العليا للانتخابات لم تتحرك لمواجهة أو محاسبة المرشحين المخالفين (كثر منهم دخلوا البرلمان)، على رغم أن القانون يخوِّلها هذا الحق. هكذا حفلت الانتخابات بمرحلتيها، بالمخالفات وشراء الأصوات، ما أسفر عن برلمان يفتقر إلى عوامل النجاح في القيام بأدواره التشريعية والرقابية، ويتّسم بقدر من الغموض في مواقف غالبية أعضائه في كثير من القضايا، وإن كانوا يعلنون دعمهم غير المحدود للرئيس السيسي وسياساته. في هذا الإطار، يمكن مناقشة فرضيّتين. الأولى، أن هناك قدراً من التغير والاستمرار في موازين الصراع الانتخابي وشكل القوى التي تحدّد نتائجه، فقد غاب «الإخوان»، ومع ذلك استمر دور الدولة في الانتخابات مع تغير الشكل والمضمون، فقد بات تدخلها ناعماً وغير مباشر، وحاولت حفنة من رجال الأعمال ممن يملكون الثروة وقنوات الإعلام الخاص وراثة دور «الإخوان»، مع اختلاف في الأدوار والأهداف، ما يعني وجود قطبين متنافسين، الأول: رجال أعمال معارضون لتدخل الدولة والجيش في الاقتصاد، والقطب الثاني الدور التقليدي المتجدّد والمتغير للدولة. ويمكن القول إن الدور غير المباشر لبعض أجهزة الدولة قد تبلور من خلال دعم قائمة «في حب مصر»، التي ضمَّت تشكيلة من رجال أعمال ونواب سابقين من الحزب «الوطني» وإعلاميين ورجال دولة متقاعدين، وقد فازت القائمة بكل المقاعد المخصصة للقوائم على مستوى مصر وعددها 120 مقعداً، ما يساوي 21.6 في المئة من مقاعد البرلمان تقريباً، إضافة إلى المشاركة في تأسيس ودعم حزب «مستقبل وطن» الذي يترأسه شاب في الرابعة والعشرين من عمره، وقد نجح هذا الحزب، بمساعدة بعض الأجهزة الأمنية، في ضمّ عشرات النواب السابقين والحصول على دعم سخي من رجال أعمال داعمين للدولة ولدورها المركزي في الاقتصاد، ما مكَّن الحزب من الحصول على 51 مقعداً ليأتي في المرتبة الثانية بعد حزب «المصريين الأحرار» الذي حصل على 65 مقعداً، بينما حلّ ثالثاً حزب «الوفد» العريق بـ32 مقعداً. وأتصوّر أن حزب «مستقبل وطن»، إضافة إلى قائمة «في حب مصر»، حرصا على تمثيل أكبر للشباب والمرأة والأقباط في شكل يفوق ما كان يقوم به الحزب «الوطني»، نتيجة اختلاف الظروف المجتمعية والسياسية، ومع ذلك فإن هناك من يرى أن زيادة التمثيل هي نوع من التحايل على الحقائق على الأرض، فغالبية الشباب تنتمي الى أسر كبيرة ومن أبناء رجال الأعمال، والمفارقة أن متوسط عمر نواب حزب «مستقبل وطن»، والذي يفترض أنه يمثّل الشباب، هو الأعلى بين نواب الأحزاب. كما أن المسيحيين والنساء هم من القريبين للنظام وممن لم يشاركوا في الثورة. في كل الأحوال، هناك تقدّم ملحوظ في الهيمنة الناعمة للدولة في الانتخابات البرلمانية، ولا يمكن مقارنتها بالتدخل الخشن والتزوير المفضوح اللذين كان يقوم بهما الحزب «الوطني» أيام حسني مبارك، وهو للمناسبة كان حزب الدولة، فقد كان مندمجاً فيها ومستمداً قوته منها. أما القطب الثاني في الانتخابات، فليست لديه أحزاب قوية أو أفكار جاذبة، ومن الصعب توصيفه لأنه يضمّ خليطاً من القوى والشخصيات التي تدافع عن الاقتصاد الحر والحدّ من دور الدولة، مع رفع بعض الشعارات الليبرالية التي تتخلى عنها إذا تعارضت مع مصالحها الاقتصادية أو إذا حصلت على مزايا اقتصادية أو تسهيلات من الدولة، كما كان يحدث في عصر مبارك. وخاض هذا القطب الانتخابات اعتماداً على الأموال والإعلام في شكل كبير وواضح، حيث التقط المرشحون الذين لم تضمّهم قائمة «في حب مصر»، وقدّم لهم أشكالاً من الدعم تتجاوز المسموح به في قانون الانتخاب، وهو نصف مليون جنيه (نحو 70 ألف دولار) للدعاية الانتخابية للمرشح الفردي، ولم يخف مؤسس حزب «المصريين الأحرار» المتموّل نجيب ساويرس، دعمه المالي لمرشّحي الحزب، وأعلن بوضوح رفضه تدخل الدولة في الاقتصاد، كما قدمت القناة التي يملكها دعماً غير محدود لمرشحي الحزب، في مخالفة لتعليمات اللجنة العليا للانتخابات. كذلك فعلت القناة التي يمتلكها رجل الأعمال سيد البدوي، رئيس حزب «الوفد». الفرضية الثانية: وجود علاقة قوية بين توزيع القوى في الانتخابات ودور بعض أجهزة الدولة وبين توجّه متنام لقوى بهدف هندسة المجال السياسي، حيث شكّل اللواء السابق سامح سيف اليزل وبعض المقربين من الدولة قائمة «في حب مصر»، والتي ضمّت ممثلين عن كل الأحزاب وعدداً من الشخصيات العامة ورجال دولة وجنرالات جيش وشرطة سابقين، وبعد انتهاء الانتخابات أعلن سيف اليزل عن مبادرة لتشكيل «تحالف دعم الدولة المصرية»، والذي اعتبر محاولة واضحة لضم أكبر عدد من النواب المستقلين (57 في المئة من النواب) لتشكيل كتلة أغلبية داعمة للرئيس. وعلى رغم معارضة حزب «المصريين الأحرار» وبعض الأحزاب الأخرى، إلا أن المؤشرات كافة ترجح أن تحالف «دعم الدولة» سيضم غالبية مريحة داخل البرلمان، ويعترض بعض الأحزاب على فكرة التحالف لأنه يفترض أن أي معارضة لسياسة الحكومة تعني العداء مع الدولة، وتطرح أفكاراً بديلة لإقامة كتل أو تحالفات برلمانية لتحقيق أهداف أخرى مثل محاربة الإرهاب أو دعم التنمية. في تقديري، أن سيف اليزل سينجح في هندسة غالبية برلمانية بغض النظر عن المسمى أو الأهداف المعلنة لهذه الكتلة. في المقابل، قد تتكون كتلة أو ائتلاف أقلية مؤثرة من نواب الاقتصاد الحرّ المرتبطين بعدد من رجال الأعمال، وهؤلاء قد يشكّلون معارضة «مستأنسة» للحكومة، فقد أعلن نجيب ساويرس أن حزبه سيدعم الرئيس حتى لو أخطأ، لأن البلد يواجه الإرهاب كما أنه في مرحلة اقتصادية حرجة. وثمة ائتلاف أو كتلة ثالثة صغيرة يجري تشكيلها باسم «تنسيقية العدالة الاجتماعية»، وتضمّ بعض نواب اليسار والناصريين والليبراليين الاجتماعيين، وبغض النظر عن تسمية هذه الكتلة فإن وجودها سيضمن حضوراً رمزياً لأنصار الثورة والعدالة الاجتماعية، في مواجهة كتلة «دعم الدولة» وكتلة رجال الأعمال. في الأخير، أعتقد أن البرلمان قد يشهد ائتلافات أو كتلاً أخرى، كما أنه من الصعب توقّع أنماط العلاقة بين هذه الكتل أو الائتلافات، حيت يرجح أنها ستكون متحركة وستتخذ مواقف غير ثابتة وفق طبيعة كل قضية أو قانون مطروح على البرلمان. وعموماً، فإن هندسة الانتخابات وأداء البرلمان لا يساعدان في عملية التحوّل الديموقراطي، لكنهما قد يضمنان الاستقرار وسرعة إصدار تشريعات وقوانين تحتاج إليها مصر في عدد من المجالات، لكن تظلّ هناك أسئلة كثيرة حول مضمون تلك القوانين وتوجهاتها، وحول الدور الرقابي للبرلمان في ظلّ ضعف الأحزاب والتضييق على المجال العام، والأهم استمرار تعثّر الاقتصاد وانتشار البطالة والغلاء.