برلين هي عاصمة ألمانيا المعروفة، أما جدارها فله قصة، فقد كان من نتائج الحرب العالمية الثانية أن قسمت ألمانيا عام 1949 إلى قسمين شرقي وغربي وفق اتفاقية بوتستدام. كما قسمت العاصمة برلين إلى شرقية وغربية. عندها خضع الجزء الشرقي للنظام الاشتراكي وفق منظومة الاتحاد السوفييتي سابقا، فبدأ الألمان في الشق الشرقي ينتقلون إلى برلين الغربية وقد لوحظ أن غالبية المهاجرين هم من الشباب ومن المتعلمين والمثقفين وأصحاب المهن والحرف، كالأطباء والمهندسين والفنيين بل والمفكرين والعلماء المختصين، ما أثر سلباً على اقتصاد ألمانيا الشرقية فقررت حكومتها عام 1961 بناء جدار يفصل بين شقي برلين ويمنع المهاجرين من الانتقال إلى ألمانيا الغربية، ومع ذلك استمرت الهجرة من الشرق إلى الغرب. وفي نوفمبر عام 1989، هدم الألمان الشرقيون جدار برلين بأيديهم مثلما بنوه بأيديهم قبل 40 عاما، كان عدد سكان ألمانيا الشرقية عند بناء الجدار 18 مليون نسمة ثم انخفض إلى 16 مليون ساعة انهياره. جدير بالذكر أن رئيس ألمانيا الحالي يواخيم جاوك هو من ألمانيا الشرقية وأحد الذين ساهموا في إزاحة الجدار كما أن السيدة أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية هي أيضاً من ألمانيا الشرقية، بل وأحد الذين فكروا في الهجرة الى ألمانيا الغربية وفق ما صرحت به في مقابلة مع صحيفة فيلت آم زونتاج الألمانية في عام 2013. فما الذي هدم جدار برلين؟ وما الذي جعل الناس في ألمانيا الشرقية يتركون منازلهم وممتلكاتهم لينتقلوا الى ألمانيا الغربية؟ ولماذا هاجرت العقول المبدعة غرباً؟ أجل، انها حزمة من القوى الناعمة تجمعت وتشابكت لتحدث ذلك الزلزال الكبير. وقبل الحديث عن أنواع هذه القوى ووسائلها وأسلحتها نقف عند التعريف بها، فالقوى الناعمة هي قيم وأفكار يترجمها سلوك إنساني ومنهجيات عمل تحقق إنجازات ملموسة، يسعد بها الناس وينعم بها من آمن والتزم بها، فينجذب إليها الآخرون لأن أفكارهم تلاءمت مع تلك الأفكار ومصالحهم تلاقت مع المصالح الكبرى التي حققتها تلك القيم والمنهجيات، كما أن مصطلح القوة الناعمة يعني في الجانب السياسي تبني دولة ما سلوكاً حضارياً عادلاً وراقياً، أو أن تنجز تقدماً علمياً وتقنياً تخدم من خلالها البشرية، أو تنتهج منهجاً اقتصادياً ذا فاعلية وتأثير كبير على مصالح شعوبها، فتجذب إليها دول أخرى فتسعى الى التعاون معها ودعم قضاياها الاستراتيجية وتوجهاتها السياسية. وأصبح لهذا المصطلح انتشار علمي بين أروقة الجامعات، وحظي بقبول حسن لدى السياسيين والمفكرين وصناع القرار عندما ألف أستاذ جامعة هارفرد المخضرم البروفسور جوزيف ناي كتابه (القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية)، الذي شرح فيه قدرة دولة ما أن تكون قدوة لدولة أخرى وتنجح في صياغة رغبات الآخرين بحيث يتبنون قيمها ومبادئها ومنهج حياتها. وجد الألمان الشرقيون في الشق الغربي اقتصاداً مفتوحاً وبرلماناً منتخباً وحرية في الثقافة والفكر، كما أصبح التنوع قوة جاذبة في ألمانيا الغربية فهناك معالم تاريخية وأسواق تجارية وجامعات راقية ومراكز بحوث ومعاهد فنية وتقنية توفر قاعدة تشغيلية فاعلة لاقتصاد قوي الأركان قوامه المعرفة والتكنولوجيا المتقدمة حتى أصبحت علامة صنع في ألمانيا رمزاً عالمياً للدقة والجودة والامتياز. كما انجذب الألمان الشرقيون الى القيم النبيلة التي اشتهر بها الألمان الغربيون مثل كرامة الإنسان وتكافؤ الفرص واحترام الدين والمعتقد إضافة الى حبهم وتشجيعهم للفنون الجميلة وإسهاماتهم المبدعة في هذا الشأن، فأعجب الألمان الشرقيون بهذه القوى الناعمة فدكوا جدار برلين وتوحدت ألمانيا. إن الوطن العربي بحاجة الى مظلة استراتيجية مشتركة تدعمها جهود صادقة تستثمر المقومات الهائلة للقوى الناعمة التي يملكها العرب اليوم، لا سيما وأن التجربة الإماراتية ناجحة جداً وملموسة بل أصبحت مصدر إلهام وقدوة حسنة لدول وشعوب المنطقة والعالم، حيث تتمتع دولة الإمارات العربية المتحدة بقيم الحكم الرشيد وإدارة حكومية متقدمة، وضمان اجتماعي وصحي وتعليمي للجميع، وتكافؤ فرص وانفتاح كبير على حضارات وثقافات مختلفة، إضافة الى العدالة والمساواة والأمان والسلام الذي يتمتع به المواطنون والمقيمون والزائرون، وقد أصبحت دبلوماسيتها الإنسانية موضع إعجاب وإطراء دولي كبير. بل وأصبحت دولة الإمارات مركز جذب لمشاريع الطاقة المتجددة والاقتصاد الأزرق والأخضر، كما أن الاقتصاد الإماراتي أصبح قوة تتميز بالمرونة والحرية والانفتاح فبحسب المؤشرات العالمية فإن الإمارات تعتبر الثانية عالمياً في جذب الاستثمارات الدولية، بحسب تقرير معهد فريزر الكندي. أجل، يملك العرب قوى ناعمة ومؤثرة يمكن تصويبها تجاه الحفاظ على المصالح الكبرى ودعم قضايانا الاستراتيجية العملاقة، فنحن نملك إرثاً حضارياً كبيراً في الفكر والمعتقد وإنجازات علمية في شتى فروع المعرفة، إضافة إلى كنز ثقافي كبير، فالثقافة تتحول الى قوة ناعمة جبارة عندما يسخر الحبر والقلم وفصاحة اللسان وقوة البيان معها اللوحة الجميلة والفيلم الهادف والمتاحف ووسائل الإعلام نحو البناء والتعمير، ومحاربة صنمية الفكر وعبودية الرأي المعوج. فما أحوجنا اليوم الى ابتكار مشاريع ثقافية كبرى في طول الوطن العربي وعرضه، لتتكامل مع الجهود المبذولة في محاربة الإرهاب والغلو والتطرف ومحاربة التدخل الأجنبي في بناء الأمة العقائدي وشؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن القوى الناعمة التي دكّت جدار برلين هي ذاتها التي أنهت الحرب الباردة، وأدت إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي، واختفت مع سقوط الجدار ألمانيا الشرقية من الخارطة السياسية لأوروبا. فهل من مدكر.