في البداية ومن منطلق العرفان بالجميل، لا بد من توجيه التحية لكل من ساهم على المستوى الوطني او المحلي في اسناد ابناء وبنات شعبنا والتخفيف بكل ما أمكن من آثار العاصفة غير المسبوقة، التي تعرضنا لها. ولا بد في البداية ايضا من الاشادة بصبر وثبات أهلنا في قطاع غزة في مواجهة ما يتحملونه من معاناة تفوق طاقة احتمالات البشـر. ولعلها مفارقة ذات مغزى ان أهالي الضفة الغربية بما فيها القدس، وهم يعانون من انقطاع الكهرباء لبضعة ايام قد ادركوا بعمق التجربة المباشرة معاناة شعبنا في غزة وهو يعاني من انقطاع الكهرباء لأشهر وسنوات. وفي الحالتين فان الذي عانى ويعاني هو الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، ولعل افدح المعاناة تلك التي عاشها اللاجئون للمرة الثالثة في مخيمات لبنان وسوريا....وكأن القدر اراد ان يذكر الاجيال الجديدة بما عاناه اللاجئون في مخيمات اللجوء عام 1950 بعد عامين من النكبة وفي شتاء ثلجي كانت قسوته مشابهة لما عشناه خلال هذه الايام مع الفارق الكبير في الإمكانيات والموارد. قبل أشهر نشر الكاتب الإنساني تشومسكي، والمناصر لقضية فلسطين مقالا تحدث فيه عن اساليب الالهاء التي تتبع لاشغال الشعوب عن قضاياها، ومنها...استراتيجية الالهاء....كاغراق الناس في القروض او خلق تعارض وهمي بين الهم الانساني الفردي...وخاصة الاقتصادي وبين الهم العام والمعاناة العامة. وفي حالتنا صار غلاء المعيشة وتسديد الاقساط عند البعض مفصولا عن الاهتمام بما يقوم به الاحتلال من ضم وتهويد و اضطهاد اقتصادي، دون ادراك أن الغلاء نفسه هو الى حد كبير حصيلة سياسات عامة تمارسها اسرائيل لقهرنا وتجويعنا. العاصفة الثلجية قدمت صورة صادمة وصارخة لحقيقة الواقع المر الذي نعيشه. فما الذي سبب انقطاع الكهرباء عن مئات الالاف لأيام طويلة، فجعل الاطفال وابائهم وامهاتهم عرضة لبرد قارص وشلل تام وأمراض ستتفاقم. وكيف يفهم تبرير مسؤولي السلطة بأن السبب يعود لاسرائيل التي قطعت عنا الكهرباء؟ نفس اسرائيل التي تحرم غزة من المياه في الصيف القائظ وتفتح السدود لتطلق عليها الفيضان القاتل في الشتاء. كيف وصلنا الى هذه الحالة؟ لماذا لا نملك نحن القدرة على الاقل للتحكم بكهربائنا؟ ولماذا لا ننتج الكهرباء؟ رغم كل أموال الدول المانحة والضرائب الجامحة وست سنوات مما سمي"بناء المؤسسات".والى متى نبقى رهائن لقرارات اسرائيل وحكوماتها؟ في الماضي كانت شركة كهرباء القدس شركة منتجة للكهرباء، فحوصرت وهددت ، ومنعت من تجديد محطات التوليد لديها واجبرت على خدمة المستوطنات للحفاظ على ترخيصها ، حتى تحولت الى مجرد وكيل توزيع وجباية للشركة القطرية الاسرائيلية، وأصبحت أسيرة بالكامل لقرارات الشركة الاسرائيلية. ما الذي قطَع اوصال الأراضي الفلسطينية الى أ / ب / ج ؟ وحرمنا من القدرة على الاستقلال بقدرتنا على انتاج الكهرباء؟ اليس اتفاق أوسلو....الذي يروج الآن لنسخة جديدة منه. ومن أعطى اسرائيل الحق في محاصرة غزة والتنكيل بها واغراقها بالعطش حينا وبالفيضان حينا آخر؟ اليس الانقسام والصراع على سلطة منتهكة الصلاحيات وعديمة السيادة وواقعة تحت الاحتلال هو احد العوامل المسببة لذلك؟ وعندما يعطي الاسرائيليون الأولوية لمستوطناتهم غير الشرعية للتزود بالكهرباء وتبقى مدننا وقرانا في عتمة الظلام والبرد القارص، اليس هذا هو نظام الأبارتهايد؟ ولعل اوضح المفارقات تكمن في معاناة سكان القدس الشرقية والبلدة القديمة بالمقارنة مع الخدمات المميزة التي تقدمها بلدية القدس للمستوطنات والجزء الغربي من المدينة. وعندما نجبر على دفع ما يقارب ضعف ما يدفعه الاسرائيلي ثمناً للكهرباء، رغم ان دخلهم يزيد عن دخلنا بعشرين ضعفا، أليس ذلك ظلما وعدوانا وتمييزا عنصريا؟ البعض روج ويروج، بسبب مصالحه ومنافعه الخاصة، للواقعية المزعومة بمعنى القبول بما هو واقع وليس فهمه لتغييره. والكثيرون روجوا لما سموه سلاما اقتصاديا على حساب السلام الحقيقي الذي يؤمن الحقوق السياسية والكرامة والسيادة والاستقلال. ولعدة سنوات نظّر البعض لنظرية بناء المؤسسات، لنجد انفسنا بعد ذلك معتمدين في مائنا وكهربائنا واتصالاتنا على الاحتلال الذي يقهرنا ويتحكم بنا وتجد اغلب المحافظات الفلسطينية نفسها محرومة من البنية التحتية. والحجة كانت ....تحسين احوال المعيشة، على حساب الحرية السياسية. هذه العاصفة الثلجية اطاحت بكل هذا الهراء مرة واحدة وأظهرت ان القبول بنهج أوسلو ، وما سيشابهه في المستقبل يعني فقدان الحرية السياسية وفقدان مقومات المعيشة ايضا. ويعني ان نسحق كل يوم بنار غلاء المعيشة والضرائب الباهظة ولا نجد عند هبوب العواصف ما ندفئ به أطفالنا وما ننير به ظلماتنا وما نحمي به بيوتنا من فيضان المياه. والعبرة ان فقدان الحرية السياسية يعني ان نفقد القدرة على الحياة، وهذا ما تخطط له السياسة الاسرائيلية. وكل من يروج لاتفاق انتقالي جديد، بدون القدس وبدون السيطرة على الحدود وببقاء المستوطنات والتوسع الاستيطاني. ماذا سنقول لأولئك اللاجئين في مخيمات لبنان والذين فقد بعضهم أبناءه مثلما فقد اجدادهم ابناءهم في عاصفة عام 1950، عندما نتحدث عن اتفاق محتمل لا يضمن لهم العودة ولا الخلاص من الظروف البائسة التي يعيشونها؟ الحقيقة التي لا يستطيع احد التهرب منها، ان معيشتنا وتدفئتنا وكهرباءنا وسلامة بيوتنا تعتمد على تحقيق تحررنا من هذا الاحتلال العنصري البغيض. والحقيقة الثانية....اننا ونحن نخوض صمودنا ونضالنا ضد هذا الاحتلال فان الأولوية في استخدام مواردنا وضرائبنا ومقدراتنا يجب ان تعطى لاحتياجات الناس وقدرتهم على الصمود..... قبل اي شيء آخر. والحقيقة الثالثة ان الاحتياجات الامنية الاسرائيلية اصبحت ترزح على صدورنا كاطنان من الركام الذي يخنق انفاس اقتصادنا وموازنتنا وحياتنا اليومية. الواقعية الحقيقية والثورية لم تكن يوماً الاستسلام للواقع ...بل فهمه وادراكه من أجل تغييره للأفضل، ومن دون السماح لأي وسيلة الهاء او خداع بحرفنا عن ذلك. الامين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية