حسن البنيّان الجزيرة – سفراء : الذي يتسنى له أن يزور الولايات المتحدة الأمريكية، أو أن يقيم فيها لفترة ليست بالقصيرة، كما فعلت عندما اضطرتني الظروف الخاصة أن أقيم السنتين الماضيتين في الوسط الغربي الأمريكي في بلدة (سيدر فولز) بمدينة (واترلو) بولاية (أيوا) أو هذا العام بمدينة (شيكاغو) بولاية (ألينوي) لابد له أن يشاهد أو يلتقي أو يتعامل مع البعض من ابنائنا وبناتنا المبتعثين من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي حيث تستوعب الجامعات والمعاهد الأمريكية ما يقرب من 106 آلاف مبتعث ومبتعثة مع مرافقيهم، فأنت لا تدخل مسجداً أو تسير في شارع أو تركب حافلة أو قطاراً أو تلج صالة سينما أو أي مكان عام إلا وأنت تلمح شباباً سعوديين من الجنسين. ويشهد الله أنني طوال إقامتي لم اشاهد أياً منهم في وضع مشين، أو متلبساً بسلوكيات أو تصرفات خاطئة، بل أفتخر أنني ارى الكثير منهم على الدوام يرتادون المساجد والمراكز الإسلامية، حتى أنني اشاهد البعض منهم يلتزم المسجد من يوم الجمعة يتلو القرآن الكريم حتى صلاة المغرب، أما من شاهدت من بناتنا المبتعثات فأنا أهنئ اهاليهن على حُسن تربيتهن، فلا أتذكر أنني شاهدت يوماً طالبة سعودية إلا وهي في كامل حشمتها والتزامها بلباسها الساتر وحجابها الإسلامي، كما لاحظت انهن لا يرافقن ولا يصاحبن طالباً سعودياً أو اجنبياً، وإن تحادثن مع الشباب ففي أضيق الظروف ولأغراض الدراسة في القاعة أو المكتبة وفي خارجها تنتهي المعرفة، ورفقتهن دوماً مع زميلاتهن البنات سعوديات واجنبيات، والمثير للإعجاب أن بناتنا لم تسجل بحقهن أي تجاوزات أو سلوكيات مشينة، وهذه كلمة حق يجب أن تقال. فخر وحزن معاً وفي خضم هذه المشاهدات، اعترف أنني خلال هذه الفترة يتجاذبني أمران شغلا بالي كثيراً وهما: الفخر والحزن، ولا غرابة أن يلتقيان، فالفخر هو في وجود بعض مبتعثينا من الجنسين في جامعات النخبة الأمريكية أو ما يسمى بـTOP 10 مثل: هارفارد، ييل، كولومبيا، ستانفورد، برنستون، جون هوبكنز وغيرها وتميز وتفوق ونبوغ مجموعة منهم وحصولهم على براءات اختراع ومستويات ومراكز متقدمة في مجالات الأبحاث والمختبرات العلمية والطبية، وبخاصة في برنامج الزمالة الطبية للحصول على البورد الأمريكي، ففي هذا البرنامج يتلقى الآن ما يقرب من 1600 طبيب وطبيبة وصيدلي وصيدلانية سعوديين التعليم والتدريب في معاهد ومستشفيات جامعية في تخصصات الطب والعلوم الطبية وطب الأسنان والصيدلة، وقد استطاعوا بقدراتهم وجدهم ومثابرتهم لفت انتباه وإعجاب وتقدير أساتذتهم ومدربيهم الأمريكان، ويجدر بنا في هذا الجانب، أن نعيد الفضل إلى اهله، ونشيد بالدور والإسهام الكبير الذي تقوم به الملحقية الثقافية السعودية في واشنطن بقيادة الملحق النشط الدكتور محمد بن عبدالله العيسى في مواصلة رعايته واهتمامه بكافة المبتعثين وبخاصة المتميزون والمتفوقون، وحرصه على نجاح برنامج الزمالة الطبية، فعندما استلم د. العيسى منصبه أواخر عام 2007 كان الدارسون في هذا البرنامج لا يتجاوز عددهم عشرة اطباء، وفي زمن مضى كان لا يوجد طبيب في السعودية يحمل البورد الأمريكي، و إنما من كندا وبريطانيا والمانيا، وقد استحدثت في الملحقية إدارة متخصصة لمتابعة اوضاع وتسهيل إجراءات هؤلاء الأطباء، تديرها الدكتورة سمر السقاف (ابنة وزير الدولة للشؤون الخارجية في عهد الشهيد الملك فيصل السيد عمر السقاف، رحمهما الله) ووكيلة كلية الطب في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة سابقاً. آثار نفسية وصحية لتدني المكافأة كما يجب أن نشير بكثير من الفخر والاعتزاز الى سيرة وسمعة المبتعثين السعوديين من الجنسين بشكل عام التي اضحت فوق الشبهات وتحظى بتقدير وإعجاب السلطات الأمنية الأمريكية، وما يحدث من تصرفات وتجاوزات فردية محدودة لا تقارن بالعدد الكبير من المبتعثين المنضبطين، وتتعامل الملحقية بشدة وحزم مع مرتكبي التجاوزات والسلوكيات الخاطئة الجنائية و الأخلاقية و السياسية والدينية تصل الى إنهاء البعثة وإعادتهم الى المملكة. أما فيما يتعلق بجانب الحزن لما شاهدته ولمسته وسمعته عن المبتعثين، وبخاصة من ابناء الأسر من ذوي الدخل المحدود، فهو انعكاس تدني المكافأة الشهرية التي تصلهم من الملحقية وقدرها 1847 دولاراً أمريكياً، على صحتهم وحالاتهم المعنوية والنفسية والدراسية مقارنة بارتفاع مستوى المعيشة في معظم الولايات الأمريكية خصوصاً إيجارات السكن التي تتراوح بين 400 2200 دولار شهرياً، وتكلفة فاتورة البنزين التي تصل بين 150 270 دولاراً شهرياً، إضافة الى تكاليف رسوم الخدمات (كهرباء، مياه، غاز، إنترنت، كابل، جوال) التي تصل إلى 250- 430 دولاراً شهرياً، وفاتورة مشتريات لاحتياجات المنزل التي تتراوح بين 70- 100 دولار اسبوعياً، فما الذي يتبقى للمصاريف الأخرى الضرورية كالأكل والملبس والكتب والمستلزمات الدراسية ومواصلات النقل العام وغيرها من تأمين على السكن والسيارة؟.. ومن حسن الحظ أن تكاليف العلاج مغطاة من خلال بطاقة التأمين الصحي التي تمنحها لهم الملحقية، وإلا فإن تكاليف العلاج والدواء في امريكا باهظة جداً. المبتعث تحت خط الفقر ومن المفارقات العجيبة أن الأمريكان يصنفون من يتقاضى أقل من 2000 دولار على قائمة من يعيشون تحت مستوى خط الفقر، لهذا يحسب المبتعثون السعوديون ضمن هذا التصنيف ، ولقد حزنت بالفعل وأنا اشاهد بين فترة واخرى مبتعثين من الجنسين يبدو على مظهرهم الخارجي وتناولهم الوجبات الخفيفة والسريعة (سناك) أو (فاست فود) واستخدامهم وسائل النقل العام، أنهم ممن يشملهم (التصنيف الأمريكي). وقد تجرأت وسألت أحد المبتعثين عن احواله في ظل هذه المكافأة المتدنية، فرد بالقول: « كما ترى احاول أن اضغط على نفسي واكتفي بساندويش (هوت دوغ) أو أي وجبة اخرى خفيفة لئلا ترتفع فاتورة مصاريفي»..! ومضى يقول:» رب ضارة نافعة، فأنا والكثير من زملائي خسرنا عشرات الكيلوغرامات من اوزاننا، وقد لا تتصور انني عندما عدت العام الماضي الى اهلي لم يعرفوني في المطار إلا عندما اقتربت منهم، والوالدة الله يحفظها كانت تعتقد أن السبب همّ الدراسة والغربة، ما عرفت أن البركة في قلة المكافأة وخبز (التوست) مع الجبنة»!. مبتعث آخر ابلغني أنه في مرات عديدة يكتفي بوجبة واحدة في اليوم عبارة عن وجبة (الآندومي) وأن مبلغ 1500 دولار من المكافأة يذهب لإيجار الشقة ورسوم الخدمات، ولا يبقى إلا القليل الذي يجبرني على أن اضغط على نفسي. واحدهم أكد لي أنه لا ينتصف الشهر إلا وهو مفلس وطفران، إلى درجة خجله من أهله لكثرة طلبات إمداده بالمال لمعرفته أنهم يستدينون لأجله، مما ادى الى تراكم الديون على والده. آخر شرح لي أن الذي يوفر يستطيع أن يعيش، واوضح: « أنا اقتصد كثيراً، واقنعت زميلاً لي في أن نتشارك في شقة واحدة لنتقاسم أجرة السكن، كما أن اهلي لا يبخلون علي فهم يرسلون لي شهرياً 700 دولار «.. واعترف لي أحد المبتعثين من أنه « يفكر جدياً في إنهاء بعثته « ـ وعلى حد قوله ـ إن زيادة معاناته من تدني المكافأة سبب له حالات نفسية صعبة، أو كما قال: فاقة وغربة لا تجتمعان. وكشف مبتعث آخر أن المكافأة تعد كافية والمعيشة مقبولة في بعض الولايات، لكنها لا تكفي في الولايات ذات المستوى المعيشي المرتفع، حيث اسعار إيجار المساكن مرتفعة مثل: بوسطن، كاليفورنيا، فلوريدا، نيويورك وشيكاغو وغيرها. في حين عارضه زميل آخر بقوله: « المكافأة لا تكفي دون مصدر آخر إما إمداد من الأهل أو أن تجد عملاً مثلي بموافقة من الجامعة، فبعض الجامعات تسمح لك إذا كانت لغتك جيدة بالتدريس في المعهد مقابلجرة بالساعة، كما تسمح لك بالعمل خارجاً إذا كنت في تخصصات مهنية إعلامية أو طبية أو صناعية أو معمارية». ولم يتردد أحدهم في القول: « قيمة فاتورة مصاريفي الشهرية تصل إلى 1300 دولار، وأرى من العيب الاتصال بالأهل للمساعدة ونحن نعرف جيداً ظروفهم المادية، ولماذا نزيد من معاناتهم بسببنا؟». واضاف: «لجأت للاستفادة من كوبونات التوفير التي تمنحها لي المحلات التجارية التي اتعامل معها في عمليات التسوق». أما أحد المبتعثين فاكتفى بالقول: «أهم فاتورة مكلفة هي أجرة السكن، لهذا لجأت للسكن مع زميل اجنبي، لكنني احاول أن اضبط مصاريفي الأخرى». د. العيسى.. تفهم وإيجابية وفي المقابل يجد المبتعثون رغم معاناتهم المريرة من المكافأة الشهرية وما تسببه لهم من أزمة خانقة قبل نهاية كل شهر، تفهماً وتفاعلاً إيجابياً من الملحق الثقافي الدكتور محمد بن عبدالله العيسى، الذي يؤكد أنه مع المبتعث وليس ضده ما دام في منصبه. ويعترف د.العيسى من أن المكافأة غير كافية في الولايات المرتفعة الأسعار في السكن والمعيشة وللملتحقين في جامعات النخبة أو الـ(Top 10) لكنها معقولة في بعض الولايات المنخفضة الأسعار في مستوى المعيشة. وكشف عن وجود مقترح لزيادة المكافأة الشهرية سيرفع للمراجع العليا، وأعرب عن أمله في إقرارها.. واستغرب د.العيسى اختيار بعض المبتعثين لبعض الجامعات أو المعاهد في الولايات المرتفعة في مستوى المعيشة وأسعار إيجارات مساكنها. ومن ثم الشكوى والتذمر من أن المكافأة لا تكفي، وهي على حد قوله تكفي بالفعل في بعض الولايات الأخرى. ويتذكر د.العيسى أحد الآباء الذي جاء برفقة ابنته إليه في مكتبه بالملحقية، يستنجد به لنقل ابنته من مدينة بوسطن لأنها غالية الى أي مدينة أخرى منخفضة الأسعار، رغم قدومه حديثاً لهذه المدينة، وكان يفترض الاطلاع جيداً على الوضع المعيشي والاقتصادي لأي مدينة أو ولاية قبل اختيارها للسكن والدراسة، وقد سهل د.العيسى للأب أمر نقل ابنته لمدينة أرخص حسب رغبتهما.