المفارقة العجيبة بين الغرب والمسلمين أن الغرب متى ما رجع إلى الانطواء تحت التسلط الكنسي والانطلاق من مفاهيم تنسب إلى الله وهي تخالف العقل والواقع فقد عاد راغبًا إلى التخلف والجهل والظلم قد يعجز الباحث عن حصر كل ما اقترفه رجال الدين في أوروبا بحق شعوبهم وعلمائهم ومفكريهم منذ لاحت للعقل إرهاصات النهضة العلمية، واطّلع المفكرون على حقائق علمية حقيقية في الطب والرياضيات والفيزياء والطبيعيات وغيرها، فقد اتخذ أولئك العلماء والمفكرون من العقل طريقًا لمعرفة بعض أسرار الكون، ونبذوا كل الخرافات التي تقررها الكنيسة وهي مصادمة لمعطيات العقل البشري، وأظهر أولئك العلماء نظريات وقوانين اعتبرتها الكنيسة كفراً يبيح لها اتخاذ كل إجراءاتها الصارمة لمنع تسرب هذه الأفكار والنظريات التي تصادم صراحة ما يقرره رجال الكنيسة، فحُرّق علماء وقتل آخرون، وسجنوا، فلم يكن "جاليليو" أول هؤلاء المحارَبين ولم يكن "جوردانو برونو" آخر من حكمت عليهم بالحرق، بل كان هناك طابور طويل من المشاهير العلماء الذين تقصدتهم الكنيسة بالعداء. كل هذا الطغيان الكنسي الذي يريد أن يهيمن على الخلق بأفكاره المحرّفة ويضع عقل الإنسان في محدودية فكر اللاهوت الكنسي الذي لا علاقة له بما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام إنما هي أفكار كانت تكتبها أيادٍ اعتادت على تقبل المجتمع لها وتصديقها وتأليهها وطلب الغفران منها. غير أنه في تلك المرحلة انكشفت الكنيسة على المستوى الشعبي بحيث لم تستطع ستر عوراتها أمام ميكروسكوبات العقل البشري، ولا أن تقف سدًا منيعًا بين العقل وبين العلم، فاضطرت الكنيسىة لمراجعة أمرها بعد أن فقدت مصداقيتها وانتُزعت منها الهيمنة القيادية، وامتنعت الجماهير عن الخضوع للكنيسة، بل صودرت أموال الكنيسة التي كانت تجمع ثمنًا للجنة! وها نحن نرى الغرب حين استطاع الخروج من قيود الباباوات والقساوسة ارتقى بحضارته الحديثة في عقود قليلة من الزمن، وها هي الكنيسة اليوم تحاول استرضاء العلم وتختلق الأساليب والأكاذيب لتقول إن العلم لا يخالف ما تقرره الكنيسة، وتعلن بذلك الاعترافَ بطغيانها، وترد الاعتبار لبعض الرموز التي كانت سببًا في نهاية حياتهم وها هو "جوردانو برونو" يُنصب له تمثال يصوره وهو رافع رأسه تعبيراً من الكنيسة عن أسفها وندمها على حرقه! وبذلك التصرف والسلوك اللاعقلاني فقدت الكنيسة مصداقيتها وتزعزعت أركان قيادتها، وأصبحت مجرد مبنىً تجرى فيه بعض الطقوس والحفلات الدينية وقد علمت أنه من المستحيل أن تعود كما كانت ولن تفكر بذلك أبدًا، إذ إنها قائمة على ادعاء الانتساب إلى الله وليس في أناجيلها إلا محض أفكار يتناقلها الناس وتُغير فيها بحسب حاجتها إلى التغيير! إذن فقد انكشف بطلان ما تدعيه الكنيسة وأن الدين الذي تتبناه ليس من عند الله العليم الحكيم؛ لأنه من المستحيل أن يكون الدين المنزل من عند الله مخالفًا للعقل البشري، ومصادمًا للحقائق الجلية والنظريات المعقولة. ونحن إذ نذكر بعض الرموز الذين قتلتهم أو حاربتهم الكنيسة نضرب صفحًا عن مناقشة أفكارهم واعتقاداتهم وإنما نورد معارضتهم للجهل بالعلم والحجة المادية المعقولة التي كان منها المنطلق في تقدم الغرب تكنولوجيًا وعسكرياً واقتصادياً، وأظهروا بالتقدم المحسوس ما كانت عليه الكنيسة من باطل، وأن دينها ليس دينًا منزلاً من الله الذي خلق السموات والأرض بعلمه وحكمته. ولعل هذا الجفاء والبون بين معتقدات الكنيسة وبين العلم الحديث سبب من أسباب كثيرة جعلت الغرب يتخذ موقفًا معاديًا من الإسلام، حيث يظنون أن دين الإسلام كدين الكنيسة، وبرهانهم على نظرتهم هذه ما عليه المسلمون من تأخر في المجال العلمي الاستكشافي، وما تتبناه بعض الجماعات الإسلامية من موقفٍ معادٍ للحضارة مطابقًا للموقف الذي تبنته الكنيسة تجاه أولئك المفكرين. لكن الحقيقة ليست كذلك بل إنها حقيقة صادمة للغرب وهي أن المسلمين كانت لهم حضارة ووصلت تلك الحضارة إلى أوروبا وآسيا وإفريقيا، وازدهرت تلك الحضارة حتى أصبح العرب مرجعًا لعلوم الفلك والطب الحساب، وكانت الوفود والسفراء والدارسون يأتون من كل بلاد الغرب قاصدين بلاد العرب لطلب علوم الدنيا، وهذا يعطينا نتيجةً واحدة وهي أن المسلمين بنوا وأسسوا تلك الحضارات مزامنةً لاعتزازهم بدينهم وتمسكهم بكتابهم الذي هو القرآن الكريم، ليثبت ذلك أنه لا يتعارض أبدًا مع متطلبات الحياة ومعارف العقل، ونحن نشاهد المنجزات العقلية والنظريات الفكرية فنجد إشاراتها في القرآن الكريم وتصديقها بآياته المبينة التي يعتقد المسلمون أنه " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ". والمفارقة العجيبة بين الغرب والمسلمين أن الغرب متى ما رجع إلى الانطواء تحت التسلط الكنسي والانطلاق من مفاهيم تنسب إلى الله وهي تخالف العقل والواقع فقد عاد راغبًا إلى التخلف والجهل والظلم، وتنازل عن كل ما حققه العقل ليعود إلى الصراع الأول الذي انطلق منه، بينما المسلمون سيبقون هكذا في تشرذم وتقهقر وتراجع حتى يفكروا بالعودة إلى دينهم والتمسك بكتابهم ليستأنفوا بناء الحضارة الإسلامية التي شهد لها التأريخ قروناً عديدة. ولك أن تجد هذه المفارقة أخي القارئ على الواقع التطبيقي وتتفكر في نتيجة العودتين ؛ عودة الغرب إلى عصر تسلط الكنيسة والانطلاق من مفاهيمها، وعودة المسلمين إلى عصر حضارتهم المنطلقة من تعاليم دينهم وستجد عند ذلك النتيجة التي يتوصل إليها البشر حين تنطلق أعمالهم وأبحاثهم من الحق وحين تنطلق من الجهل .، وشتان بين المنطلقين، وبين النتيجتين، والله من وراء القصد.