عقدت مؤسسة الفكر العربي (رئيسها الأمير خالد الفيصل) مؤتمرها السنوي الرابع عشر «فكر 14»، (6 - 8/ 12/ 2015) بمقر الجامعة العربية بالقاهرة. وقد افتتح المؤتمر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وكانت المناسبة ذكرى مرور سبعين عامًا على إنشاء الجامعة العربية، ولذا فقد كان موضوع هذا المؤتمر - كما في العام الماضي -: التكامل العربي. يعيش العالم العربي كما هو ظاهرٌ وواضح منذ خمسة أعوام مخاضاتٍ هائلةً في ظلّ تفاقُم ثلاث ظواهر: تراجع حراكات التغيير المدنية السلمية - والتدخلات الخارجية - والانشقاقات الدينية. لقد أدّى تراجُع الحراكات الشبابية المدنية في كل مكان إمّا إلى استعادة الأنظمة القديمة لسطوتها بالعنف والتدمير، أو إلى فوضى عارمة تهدد الإنسان والعمران، أو إلى خوفٍ من جانب الناس على الدولة بحيث سهُلَ على القوى العسكرية والأمنية دون التنكر لشعارات الثورات، القبض على الزمام، كأنما لم يحدث شيء أو لكي لا يحدث شيء غير متوقع! أما التدخلات الخارجية فقد واجهت الحراكات منذ البداية. فصحيح أنّ خامنئي زعم أولاً أنّ الحراك الشبابي حدث من وحي الثورة الإيرانية؛ لكنه ومنذ أواخر العام 2011 بدأ يدعم نظام الأسد، ويدفع المالكي باتجاه الحرب الأهلية. وزادت روسيا مبيعات الأسلحة وإمداداتها للنظام السوري. ثم منذ العام 2013 صار لإيران عسكر وميليشيات على الأرض السورية، وتصاعدت وتيرة التدخل الروسي إلى أن بلغت الذروة في الهجمة الأخيرة المستمرة بالطيران والصواريخ وآلاف الضباط والخبراء في القواعد وغرف العمليات من الساحل إلى الحدود التركية فالحدود الأردنية. أمّا الجولان والحدود السورية مع إسرائيل، فإنّ الصهاينة كفيلون بحمايتها من شرور الإرهاب والجيش الحر بالتنسيق مع طيران بوتين وصواريخه. وعندما نذكر روسيا وإيران أو نخصُّهما بالذكر فلأنهما أكبر المتدخلين، وإلاّ فإنه وقبل ظهور «داعش» والحملة العالمية على الإرهاب بسوريا والعراق؛ تركيا تدخّلت ولا تزال في سوريا والعراق. وهذا فضلاً عن بعض الدول العربية، واستخبارات الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. وقد أجمع كل المتدخلين أخيرًا على أنهم إنما يكافحون الإرهاب. وما قصّر الإرهابيون في استدراج التدخلات عندما نشروا الرعب في كل مكانٍ في العالم بالانتحاريات والتفجيريات! إنّ حقبة الاضطراب المتعدد الأسباب هذا، تلت حقبةً أو حِقَبًا سادت كلاً منها مسلَّمةٌ من المسلَّمات، اعتبرت هي عامل التوحيد والاستنهاض في الحقبة المعنية. في البداية كانت المسلَّمة أنه لا بد من تقديم تحرير فلسطين على أي اعتبارٍ آخَر. ثم قيل في فترةٍ أخرى بل لا بد من الوحدة العربية لتحقيق التحرير. ثم ساد لعقدين وأكثر هاجس وممارسات الثورة والثوران والمقاومات والحروب الشعبية الطويلة الأمد من جانب السلطات والمعارضات! وخلال الحقبة هذه ظهر الثوران الإسلامي الذي سعى أيضًا للتغيير الجذري! مما دفع باحثين ومفكرين للذهاب إلى أن بنية الفكر العربي واحدة مهما تعددت تياراته والآيديولوجيات التي يجري التشبُّثُ بها كأنما هي المثالُ الأوحدُ للحقيقة الواحدة! لقد لعبت آيديولوجيات ونضالات التحرير والوحدة والمقاومة في المدى الطويل، الأدوات نفسَها التي تلعبها اليوم الممارساتُ التدخليةُ والانشقاقات والفتن الدينية - بمعنى أنّ الاستقطاب والشرذمة والتفكك والنزاعات الداخلية؛ كانت هي النتائج التي حصدتها المجتمعات والدول العربية. لماذا أقدم بهذا كلِّه وأنا في صدد الحديث عن مؤتمر مؤسسة الفكر العربي بالجامعة العربية؟ لأن المؤسسة تطرح مسألة التكامُل والاعتماد المتبادَل باعتبارها عامل جمعٍ وتضامُنٍ ومحاولة للخروج من فخاخ الشرذمة والانقسام، ومن أهوال القتل والتهجير. لكنْ ليس هذا فقط؛ إذ إن المؤسسة تعلنُ عن بدء مرحلةٍ جديدةٍ نهجًا وموضوعًا أو موضوعات. ذلك أنّ الجامعة العربية هي رابطةٌ لدولٍ تعتمد مبدأ السيادة لوحداتها كما هو معروفٌ في المجتمع الدولي. بينما تريد مؤسسةُ الفكر العربي الانطلاق من المجتمعات المدنية الشبابية دون مسلَّماتٍ ولا أفكار مسبقة. والمقصودُ بذلك ليس المواجهة مع الجامعة ودولها، بل التلاقي تحت سقف الجامعة لإعطائها دفعًا جديدًا بواسطة النُخَب والقيادات الشابة التي تتجاوز الاندماجيات والثورانات، التي اعتبرت الجامعة دائمًا دليلاً على الفشل وليس دليلاً على الثبات والصمود. ما أمكن النجاح في إنقاذ فلسطين، ولا في تحقيق الوحدة من طريق النظام القائد أو من طريق الثورة، فليلتقِ العربُ الجُدُدُ في الجامعة لتحقيق التكامل بين الوطني والقومي، وبين المحلي والعربي، وبين العربي والعالمي. وهكذا وبتغيُّر الأفكار وبروز ضرورات جديدة، تتغير الطرائق. لقد عمد شبابُ مؤسسة الفكر العربي الآتون من سائر أنحاء العالم العربي إلى تغيير الأسئلة وتركيز الملفّات، وتغيير طرائق البحث. ففي خمسة أو ستة ملفات كان السؤال دائمًا بـ«كيف؟»، وليس بـ«ماذا؟» ولا بـ«لماذا؟». هناك الملف الثقافي، والملف الاقتصادي، والملف التنموي، والملف الأمني والعسكري. وفي كلٍ من هذه الملفات يجري السؤال من طريق الكيفية عن الأساليب والحلول والبدائل العملية عبر أسئلة جزئيةٍ متوالدة، تبحث عن الفعالية وعن الإقدار أكثر مما تبحث عن الإجابات الجاهزة. هل تحتاج أسئلة الشباب إلى سلطة وتكليف، ومن الذي يُكلِّف؟ أسئلة الشباب لا تحتاج لشيء من ذلك، وإنما ترمي لاستحداث وعي عامٍ بالخيارات البناءة المتلاقية مع مصالح العرب، وثقافة العالم، وهم يستطيعون على مدى العام 2016 المُضي إلى جانب خبراء وباحثين في بحث هذه الموضوعات، وتقديم الأفكار والحلول والبدائل وتكثير الممكنات عمليًا، فهم يملكون إذا صحَّ التعبير سلطة الاقتراح؛ ذلك أنّ أمرهم كما جاء في القرآن الكريم «شورى بينهم». وهذه هي الفكرة الجديدة أو الباقية في المجتمعات المدنية. بل إنّ هذه «الشورى» الإبداعية، إنما تُسهمُ أيضًا وأيضًا في استحداث أو تطوير المجتمعات المدنية، إذ يُقدرُ كلٌّ من هؤلاء الشبان والشابات الآخَرَ الوطني والآخَرَ العربي فيحدث الاشتراك، ويحدث الاعتماد المتبادَل، لأن الالتزام يصبح تلقائيًا لا إلزام فيه ولا إكراه من أي نوع. لقد كان المعهود أن يتحدث مُحاضرٌ ويصغي الآخرون، أمّا في هذه المبادرة فإنّ الجميع يشاركون ويتفاعلون ولا يعلو صوتٌ على صوتٍ إلاّ بقوة الفكرة والقدرة على إقناع المجموعة بها بحيث تُصبح في هذا المجال أو ذاك هي سؤال أو أحد أسئلة العام. إنّ سؤال التكامل ليس سؤالاً جديدًا. فقد انطرح كما سبق القول في مؤتمر مؤسسة الفكر في العام الماضي. وبين يدي كتاب الأسكوا للتنمية العربية للعام 2014، وهو عن التكامل. وفي كتيبات مؤسسة «الأهرام» واحدٌ بعنوان: «التكامل المأزوم». والفرق الآن أنّ التكامل يصبح في وعي الشباب وعملهم خيارًا ووعيًا وإمكانيةً وسبيلاً للخروج من التأزم إلى فضاءات الجماعة العربية واختياراتها وحرياتها.