تحمل إحدى روايات الأديب الجزائري، واسيني الأعرج عنوان منحدر السيدة المتوحشة، العنوان ليس من وحي الخيال، بل هو مكان بهذا الاسم ومتوحش فعلاً في داخل مدينة الجزائر، هو واد سحيق يفصل بين أرقى حيين في المدينة حيدرة والابيار. وقبل التوسع العمراني كان المكان مرتعاً للحيوانات البرية الغابية، كالذئاب والثعالب والضباع المخططة والقطط البرية وما إليها، لكنه صار اليوم في داخل المدينة تحيط به فلل وقصور وبنايات عملاقة شُيدت على أراض كانت من قبل بساتين للفاكهة والخضراوات، ويبدو مثل جزيرة في بحر العمران. تتربع مدينة الجزائر على خليج بشكل هلال، وتمتد نحو الأعلى إلى رواب يصل ارتفاعها إلى نحو 600 متر عن سطح البحر، وحين تطل على المدينة القديمة، أي الشريط الساحلي من الأحياء الواقعة على المرتفعات كالابيان بوزريعة وهضبة العناصر، تبدو لك المباني كأنها نقوش بيضاء على رقعة خضراء عملاقة، ففي كل الأحياء، باستثناء، حي القصبة العتيق الذي يشكل كتلة متلاحمة من العمران القديم ؛ تنتشر خضرة حدائق أقامها الإنسان، أو غابات طبيعية قديمة لا تزال تنعش هواء العاصمة الجزائرية، وتذلل آثار التلوث الناتج عن المدنية والتصنيع. أهم حدائق مدينة الجزائر هي حديقة التجارب وقد شيدت في العام 1832، بمنطقة رطبة في الضاحية الشرقية للمدينة على مساحة تبلغ 48 هكتاراً، فيها اليوم أكثر من 2500 نوع من النباتات والأشجار، وخضعت لتنظيم هندسي راق، تتخللها أروقة بشكل أنفاق تغطيها الأشجار يزيد طولها الإجمالي على ألف متر، وقال المهندس والفنان الفرنسي الكبير إيميل جان جوزيف جورديسار في مذكراته إن الفرنسيين لما دخلوا الجزائر محتلين في 1830، وجدوا الطبيعة السخية والمناظر الساحرة، فانسجموا مع المحيط الجميل، وأبدعوا في التصور والطموح، فكان من أولى مشاريعهم إقامة هذه التحفة، وساهم هذا الفنان الذي أقام ردحاً من الزمن في الجزائر، وأسس مدرستها العليا للفنون الجميلة، في تزيين أركان الحديقة في بداية القرن الماضي، بمنحوتات زادتها جمالاً على جمال، وقد حافظ مهندسو الحديقة على أجزاء من الغابة الطبيعية، وأضافوا لها مواقع لمشاتل تجلب من القارات الخمس للتجربة، وصارت من أهم المراكز البيولوجية المتخصصة في علم النبات لدى الدوائر الزراعية والعلمية الفرنسية، وقد صورت بعض حلقات أفلام تارزان في هذه الحديقة مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وتبدو كما لو أنها أدغال في الأمازون، كما كان فيها قسم خاص بالحيوانات البرية للتجارب والتكاثر أيضاً، وبعد الاستقلال تكفل بها ميسورون جزائريون، وصارت اليوم تتعامل مع أكثر من 500 حديقة تجارب عبر العالم، ويقصدها الناس للراحة والاستجمام، وفي المدة الأخيرة اهتمت بتزويد السكان بالمشاتل لزرعها في منازلهم، وفي الثمانينات من القرن الماضي، وفي إطار تطوير المساحات الخضراء وتهيئتها، أقامت الدولة حظيرة واسعة بمئات الهكتارات معظمها غابات على المرتفعات قرب بن عكنون، وأصبحت اليوم مزاراً لعشرات الآلاف من المواطنين الصغار والكبار يومياً، لما توفره من راحة للزائر بحيث ينتابك إحساس بأنك في منطقة جبلية، وأنت في وسط أكبر مدن البلاد، وسمي هذا الإنجاز حديقة الحيوانات والتسلية، حيث تتوفر فيها مختلف الألعاب، وكذلك المئات من أنواع الحيوانات المختلفة بعضها رُحّل من حديقة التجارب، وبعضها الآخر تحصلت عليه في شكل هبات من دول إفريقية وآسيوية عدة، وتنتشر بالمدينة حدائق كثيرة أخرى تضم مئات من الأنواع النباتية زادت من جمال مدينة الجزائر، واتخذت أسماء لمدن صديقة لمدينة الجزائر، فتجد مثلاً حديقة القاهرة، وميدان بور سعيد، وحديقة براغ، وحديقة صوفيا، وحديقة بيروت، كما تتخذ أخرى أسماء بالاستناد إلى قيم ومثل عليا كالحرية والاستقلال والسلم، والعامل المشترك بين هذه الحدائق والميادين كلها أنها تضفي جمالاً على مدينة هي جميلة أصلاً، بهندستها وعمرانها وشوارعها، التي تشبه كبريات المدن المتوسطية في فرنسا وإسبانيا واليونان وإيطاليا، وفضلاً عن هذه الحدائق الغناء، تشمل القصور الكبيرة التابعة للدولة مساحات شاسعة مغطاة بأشجار نسبة منها مثمرة خاصة الحمضيات ودوالي العنب والكمثرى، ومن أهم تلك القصور: قصر الشعب وهو تابع لرئاسة الجمهورية، وكان في السابق المقر الرسمي الذي يقيم فيه الرئيس في عهد أحمد بن بللا وهواري بومدين، قبل أن يغير الشاذلي بن جديد إقامته إلى حي المرادية على المرتفعات قرب غابات منحدر السيدة المتوحشة. وتوجد عشرات من الفلل الفخمة والقصور موروثة عن العهدين العثماني والفرنسي تتوسط طبيعة خلابة، تحولت بدورها إلى مبان حكومية. تكسو الهضبات التي توسعت اليها مدينة الجزائر أحراشاً وغابات قديمة من أشجار الصنوبر والبلوط والزان والصبار، وقد حافظ بناة المدينة منذ القدم على نسبة كبيرة من الغابات وسط المباني السكنية، ومن أهم الغابات القائمة اليوم: غابة العناصر، وتحتل مساحة كبيرة وتقع على هضبة قرب حي بلوزداد الشعبي، وقد بني وسطها عام 1984 قصر الثقافة الذي يحتضن وزارة الثقافة والاتصال اليوم، وبنيت قبل عامين بالمكان وزارة الشؤون الخارجية، وسط ديكور استثنائي، وتكسوها خاصة أشجار الصنوبر والصبار، وقد حذرت جمعيات البيئة في السنوات الأخيرة من تدميرها، بعدما صار العمران ينهش جوانبها، لاسيما على شارع رئيسي تحاول السلطات أن تجعل منه مركز أعمال كبيراً، ويربط بين طريق سريع يقع جنوب المدينة، وآخر يقع على الساحل، وقد زرعت على هذا الشارع عشرات من الوكالات البنكية وشركات التأمين ومراكز الأعمال المختلفة جزائرية وأجنبية مع بداية الانفتاح الاقتصادي، وفي الجهة الأخرى من المدينة تمتد غابات بوفريزي، وأحراش السيدة الإفريقية على مئات الهكتارات داخل المناطق السكنية، وأكبر الغابات التي تمتد داخل مدينة الجزائر غابة باينام، وتمتد هذه الغابة من شاطئ البحر إلى قمة بعلو 500 م، وكانت إلى وقت قريب تقع خارج المدينة وعلى جناحها الغربي، لكن اتساع رقعة العمران جعلها اليوم تتوسط أحياء بوزريعة و عين البنيان و بني مسوس و الحمامات، وغابة باينام موحشة، ولا يزال الناس يتجنبون دخول أعماقها وهي تعج بالحياة البرية، وقال أحد المسنين من العارفين بشؤون الغابة، إن ثمة أماكن منها قد لا يكون الإنسان دخلها قبل اندلاع حرب تحرير الجزائر عام 1954، وشهدت خلال الأزمة الأمنية في تسعينات القرن الماضي، عمليات مسلحة كبيرة بين الجيش و عناصر تنتمي لجماعات مسلحة متشددة، وأتلفت أجزاء منها جراء الحرائق التي نشبت فيها مرات عدة، وفي المدة الأخيرة، وتبعاً لتحسن الوضع الأمني صار الناس يقصدونها لتغيير الجو وقضاء أوقات خارج ضوضاء المدينة والتمتع بظلالها، خاصة في فصل الصيف، حيث مقياس الحرارة يتجاوز أحياناً حدود 30 درجة مئوية بمدينة الجزائر، وأسست سلطات المدينة فيها مرافق استقبال وترفيه كبيرة، بما فيها دروب للخيل وأخرى للدراجات، وتكفلت قوات الدرك بحراستها ومراقبة مسالكها الوعرة، وتوجد فيها اليوم حظيرة لتربية الخيول وتعليم الفروسية ومرافق أخرى عدة.