أعلن رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو في اجتماع لحزب الليكود الذي يتزعمه أن حكومته لن تسلّم السلطة الفلسطينية ولو متراً واحداً في الضفة الغربية جاء ذلك رداً على أقاويل بأنه سينسحب من 40 ألف دونم من أراضي المنطقة (ج) ليسلمها للسلطة الفلسطينية لتكون السلطة السياسية فوقها. بهذا الإعلان أوقف نتنياهو كل حديث، حول ما عرف باقتراح إجراءات لبناء الثقة، والتي تشمل، اضافة للانسحاب المذكور، تقديم تسهيلات اقتصادية كإقامة مشاريع اقتصادية ومشاريع بنية تحتية والسماح بالبناء في بعض مناطق الضفة. لقد أوقف نتنياهو بالدرجة الأولى، الجدل الداخلي في دولة الاحتلال والذي كان في معظمه باتجاه الرفض والاستنكار، كما أوقف المطالب الدولية وبالذات الأمريكية. إجراءات بناء الثقة المتداولة لم تكن في البداية والأصل جدية أو محددة أو رسمية صادرة بقرار عن الحكومة. كانت مناورة سياسية وحركة علاقات عامة لزوم زيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة، وليظهر للعالم إيجابيته وسعيه نحو الحلول. وكانت أيضاً، مناورة مكشوفة لإغراء القيادة السياسية الفلسطينية قبول طلبه- شرطه- وقف الهبة الشعبية وتهدئة الأوضاع الأمنية ووقف التوتر والتصعيد في القدس والضفة والعودة إلى حال الهدوء، في مقابل هذه الإجراءات. الإعلان بعدم تسليم الأرض جاء ليترافق ويتكامل مع رزمة من القرارات والاجراءات الأخرى. وكأن نتنياهو كالثور الهائج الذي فلت من كل عقال يضرب في كل اتجاه في سباق مع الزمن. ومن هذه القرارات: - قرار المضي قدما في طرح مشروع قانون الوطن القومي. والإعلان عن تشكيل طاقم حكومي يقوده رئيس الائتلاف الحكومي هنغبي، ومعه وزيرة العدل اليمينية مهمته التداول حول صيغة متفق عليها القانون في حال إقراره سيكون له تأثيرات كبيرة على مؤسسة دولة الاحتلال، ويعيد تفسير القوانين وربما يعيد صياغة بعضها على أساسه، بما في ذلك النشيد والعلم الوطنيين، وهو إلى جانب أمور أخرى يكرس الرواية التاريخية اليهودية لفلسطين باعتبارها الوطن القومي للشعب اليهودي، ويعطي حق التصويت في الانتخابات ليهود الخارج. والأهم هو تأثيره على الفلسطينيين في دولة الاحتلال باتجاه تكريس التمييز العنصري بتطبيقاته وإجراءاته المتنوعة، ومحاربة التعبيرات الوطنية وفي مقدمها اللغة العربية. - القرار بتعليق دور الاتحاد الأوروبي في عملية السلام مع الفلسطينيين بعد قرار الأخير وسم البضائع المصدرة من دولة الاحتلال إلى أسواق بلدان الاتحاد التي تم إنتاجها أو تصنيعها في مستوطنات الضفة الغربية، و استدعاء سفير الاتحاد لديها لابلاغه الرفض والاستهجان لقرار الوسم المذكور. الدافع وراء هذا القرار ليس الخسارة الاقتصادية التي تنتج عنه، فهي محمولة بالنسبة لاقتصاد دولة الاحتلال، ولكن الدافع هو استباق تطور موقف الاتحاد الأوروبي باتجاه إجراءات أقوى وأكثر ضرراً. والأهم، حتى لا يتطور إلى مواقف تسهم في بناء رأي عام عالمي مؤثر يرى في دولة الاحتلال نظام تمييز عنصري ويدفع للتعامل معها كما تم التعامل مع نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وخوفاً من الوصول إلى نفس النتيجة. - قرار حظر الجناح الشمالي من الحركة الإسلامية في أراضي 1948 واعتبارها خارجة على القانون واغلاق مؤسساتها بتهم التعاون مع حركة حماس، والتحريض على الهبة الشعبية ودعم افعالها. - وباتجاه معاكس تماما لحديث إجراءات بناء الثقة المزعومة، فإن نتنياهو وحكومته، وخلال التصدي للهبة الشعبية، يصعّدون وبشكل مريب التوسع الاستيطاني وإجراءات الاستيلاء على الأراضي وضمها: مثل إقرار بناء وحدات استيطانية جديدة في القدس، والمصادقة على توسيع المستوطنات قرب رام الله بشكل كبير، ومثل المصادقة على بناء بيت تهويدي كبير قبالة المسجد الأقصى، ومثل تسليم الجهات المعنية اخطاراً بالاستيلاء على 244 دونماً من اراضي بلدة صوريف وقرية الجبعة شمال غربي الخليل. وفوق كل ذلك، العودة إلى تنظيم زيارات لمجموعات يهودية إلى حرم المسجد الاقصى على قاعدة التأكيد بأنها الجهة المسؤولة عن المسجد الأقصى والمقررة في كل أموره وشؤونه. حتى مجال الفن والثقافة لم يسلم من إجراءاتها ووصل إلى التهديد باغلاق المسرح الوطني المعروف بالحكواتي في مدينة القدس الذي له من العمر 31 عاماً. فقد سلمت دائرة الإجراءات الإسرائيلية ادارة المسرح قراراً بالحجز على المسرح بحجة تراكم الديون. كل هذه الاجراءات وغيرها تأتي على خلفية تأكيد مسبق ومعلن لنتنياهو باستحالة قيام دولة فلسطينية خلال مدة ولايته في الحكم، وتأكيد ديمومة الاحتلال. كما تحصل هذه الاجراءات على خلفية مجابهة الهبة الشعبية الفلسطينية القائمة، وذلك باستمرار وتصعيد سياسة العقاب الجماعي، وعمليات الاعدام المجاني والأسر من دون مبرر أو مسوّغ قانوني. مضافاً إليها هدم البيوت، وآخرها مشاركة أكثر من 1200 من جيش الاحتلال وقواته الخاصة في اجتياح مخيم شعفاط للاجئين شمالي القدس بهدف هدم منزل الشهيد إبراهيم عكاري. وكأن نتنياهو، وحكومته، يسابقان الزمن لاقتناص الأوضاع العربية والاقليمية والدولية المستغرقة بكليتها في عنوان مواجهة الارهاب العالمي. وهو يسعى لفرض أكثر ما يمكن من التغييرات اللوجستية والسياسية وتكريس الاحتلال ما يجعل الحديث عن دولة فلسطينية كلاما مرسلا بلا أساس على الأرض يكسبه مصداقية وامكانية التحقق. ويجعل من التفاوض حول حل الدولتين نوعا من العبث ومضيعة للوقت. سباق نتنياهو وسعيه الموصوف أعلاه يأتي في انسجام تام وكتعبير أصيل عن التوجه اليميني الطاغي في مجتمع دولة الاحتلال وكل قواها ومؤسساتها السياسية والمجتمعية والقائم على قناعة تلمودية وشبه إجماع يدعو إلى التمسك بكل الأرض المحتلة وتملكها واستيطانها والتعامل مع أهلها كأقلية على قواعد التمييز العنصري. على المستوى الدولي الرسمي ليس هناك أي تحرك أو مبادرة جدية محددة يتبناها طرف واحد أو عدة أطراف. الولايات المتحدة، ربما لقرب انتهاء ولاية الرئيس أوباما، تبدو في وضع المستقيل من أي تحرك او مبادرة جدية، إلا في حدود تضامنها ونصرتها لدولة الاحتلال في مواجهة الهبة الشعبية الفلسطينية. واللجنة الرباعية لا تبادر ولا تجتمع إلا ما ندر، والاتحاد الأوروبي يكتفي بمواقف وقرارات - تبقى مهمة ومشكورة - في مجال المقاطعة. الاستثناء المفرح في الوضع الدولي الرسمي هو الاختراق السويدي ممثلا بمواقف وزيرة خارجيتها. فقد قارنت في تصريحها الأول ما حدث في باريس (التفجيرات الإرهابية الأخيرة) مع وضع الفلسطينيين حيث يرون انفسهم بدون مستقبل ما يدفعهم لأن يلجؤوا إلى العنف، وهو التصريح الذي آثار جنون دولة الاحتلال وقادها إلى منع زيارة الوزيرة إلى المنطقة. وعادت نفس الوزيرة في الرابع من الشهر الحالي لتثير جنون دولة الاحتلال مجدداً بعد ان أعلنت خلال نقاش في البرلمان السويدي ان إسرائيل تنفذ عمليات إعدام ضد الفلسطينيين المشتبهين بتنفيذ عمليات من دون محاكمة. الاختراق جاء على خلفية مبادرة دولة السويد الاعتراف بدولة فلسطين. وتكرر الاختراق، وان بدرجة اقل، في إلغاء نائب المستشار النمساوي زيارة إلى دولة الاحتلال كانت مرتقبة في السابع من الشهر الجاري بسبب إصرار مضيفيه على عقد لقاء معه في القدس الشرقية. أما على المستوى شبه الرسمي والمجتمعي فعلى الرغم مما شهدته السنوات القليلة الأخيرة من تقدم ملموس تمثل أساساً في اعتراف برلمانات أوروبية عدة بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة لهم وطلبهم من حكوماتهم الاعتراف بالدولة القائمة، وتمثل في التنامي الملحوظ في حركة المقاطعة الدولية ضد دولة الاحتلال على المستويات الاقتصادية والاكاديمية والنقابية والفنية، على الرغم من ذلك، فإن درجة التجاوب مع الهبة الشعبية ومطالبها، ولأسباب عديدة منها ما هو موضوعي، ما تزال اقل من المستوى المطلوب والمتوقع. ومع ذلك فليس أمام الفلسطينين على المستوى الدولي سوى البناء على البوادر الايجابية المشجعة والتطور المتسارع في مواقف الرأي العام العالمي ومنظماته المتخصصة على قاعدة رفض استمرار الاحتلال وتصاعد تأثيره، وسوى الاتجاه أساساً نحو المنظمات الدولية والاستقواء بقراراتها. صادق الشافعي lenco85@hotmail.com