أخيراً أصبح لمصر برلمان اكتملت به أضلاع نظام سياسي «جديد»، يفترض أن يحل محل النظام «القديم» الذي أسقطته ثورة يناير، وأن ينهي سلسلة طويلة من مراحل انتقالية لم ينجح أي منها في استكمال الأضلاع المفقودة أو المفتقدة. فعلى مدى سنوات خمس، شهدت مصر مراحل انتقالية عدة بدت بلا نهاية. ورغم نجاح المرحلة الأولى التي أدارها المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تنظيم انتخابات تشريعية وأخرى رئاسية، إلا أن هذه المرحلة ظلت حتى النهاية من دون دستور، ولم يستمر البرلمان الذي أفرزته أول انتخابات تشريعية تمت بعد الثورة أكثر من ستة أشهر. ثم جاء الدكتور محمد مرسي ليدير، بصفته الرئيس المنتخب، مرحلة انتقالية ثانية لم تدم سوى عام واحد، فشل خلاله في استعادة البرلمان المنحل أو تنظيم انتخابات برلمانية جديدة، ولم يتمكن من إنجاز دستور إلا بعد أن أصدر «إعلاناً دستورياً» أثار سخطاً واسعاً وتسبب في اندلاع اضطرابات أعادت الأوضاع إلى نقطة الصفر من جديد. وأدار المستشار عدلي منصور بصفته رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، مرحلة انتقالية ثالثة حكمتها هذه المرة «خريطة طريق»، وأمكن على هديها إنجاز دستور جديد، وتنظيم انتخابات رئاسية، لكن ظل البرلمان غائباً. وقد ظلت مصر، حتى بعد أن أمسك الرئيس عبدالفتاح السيسي بمقاليد السلطة، وكأنها تمر بمرحلة انتقالية رابعة، بسبب التأجيل المتكرر للانتخابات البرلمانية. الآن فقط، وبعد خمس سنوات من التيه، أصبح لمصر نظام سياسي مكتمل الأضلاع، له رئيس منتخب، وبرلمان منتخب، ودستور معتمد، وذلك للمرة الأولى منذ ثورة يوليو. فهل يملك هذا النظام من المقومات ما يكفل له الاستقرار ويجعله قابلاً للبقاء والاستمرار؟ دعونا نتفق أولاً، قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، على أن قوة أي نظام سياسي لا تتوقف على وجود واكتمال مؤسساته، وإنما على ما تتمتع به من كفاءة في أداء الوظائف المنوطة بها. فنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك لم يسقط بسبب نقص في المؤسسات، وإنما بسبب اهترائها وفشلها في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. ونظام «الإخوان» لم يسقط بسبب تمنع المؤسسات القائمة، وإنما بسبب إصراره على بناء مؤسسات على مقاس الجماعة وليس المجتمع. ولأنه يفترض أن يكون النظام «الجديد» في مصر نتاج «خريطة طريق» جرى التوافق عليها مع عدد كبير من القوى السياسية، فمن الطبيعي أن تثور تساؤلات مشروعة حول ما إذا كان هذا النظام يعبر فعلاً عن هذا التوافق نصاً وروحاً. تجدر الإشارة هنا إلى أن وراء «خريطة الطريق»، والتي تم إعلانها يوم 3 تموز (يوليو) 2012، فكرة محورية مفادها أن مرسي مارس سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية كممثل لجماعة «الإخوان»، وليس كرئيس منتخب يفترض أن يمثل كل المصريين، ومن ثم تمت تنحيته لإعادة فتح الطريق نحو التحول الديموقراطي وبناء نظام يشارك فيه الجميع ولا يستبعد أحداً. وتأسيساً على هذه الفكرة، تضمنت هذه «الخريطة» إجراءات محددة، مصحوبة بجدول زمني فصَّله «إعلان دستوري» صدر يوم 8 تموز (يوليو)، يمكن تلخيصها على النحو التالي: 1- صياغة دستور جديد يبدأ سريانه عقب موافقة الشعب عليه في استفتاء عام خلال فترة لا تتجاوز أربعة أشهر 2- تنظيم انتخابات تشريعية تبدأ إجراءاتها خلال فترة لا تتجاوز شهرين من إقرار الدستور 3- تنظيم انتخابات رئاسية تبدأ إجراءاتها خلال فترة لا تتجاوز أسبوعاً من انعقاد البرلمان. كما نصت في الوقت نفسه على وجوب «تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بصدقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل كافة التوجهات»، لكنها لم تحدد جدولاً زمنياً لعمل هذه اللجنة. يتضح مما تقدم أن التصور الأصلي بُني على ترتيب معين للأولويات: دستور جديد تعقبه انتخابات برلمانية ويختتم بانتخابات رئاسية، وعلى مهلة زمنية محددة للانتهاء من هذه المرحلة الانتقالية كلها خلال عام واحد. غير أن الترتيب لم يُحترَم، حيث تقرر إجراء الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية، ولا المهلة الزمنية كذلك، لأنها طالت لعامين ونصف العام بدلاً من عام واحد، أما المصالحة الوطنية فقد تم تجاهلها تماماً رغم أن الحكومة التي تشكلت عقب إعلان خريطة الطريق تضمنت تعيين وزير دولة للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية! لنحاول الآن تفحص ملامح النظام المصري «الجديد» الذي استكملت أضلاعه للتو، في مرآة خريطة الطريق، وسوف نلحظ ما يلي: 1- إن هذا النظام يمتلك دستوراً يعبر فعلاً عن روح «خريطة الطريق»، رغم احتوائه على عدد من المواد التي تثير بعض المخاوف أو الشكوك. إذ يتسم بحرصه الواضح على الحد من سلطات رئيس الدولة، حتى لا يساء استخدامها مثلما حدث في عهدي مبارك ومرسي، وعلى توسيع صلاحيات البرلمان بالقدر اللازم لإقامة التوازن الضروري بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع وضع ضمانات تكفل عدم طغيان إحداهما على الأخرى. فللبرلمان صلاحيات تمكنه من مشاركة رئيس الجمهورية في اختيار رئيس الحكومة، ومن مساءلة وسحب الثقة من رئيس وأعضاء الحكومة، ومن مساءلة رئيس الجمهورية وتوجيه الاتهام إليه، إذا انتهك الدستور أو ارتكب خيانة عظمى، وله أيضاً حق اقتراح سحب الثقة وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ورغم أهمية هذه النصوص، إلا أنها تظل نظرية وافتراضية إلى حد كبير لأنها لم تختبر بعد، وأقرت قبل أن يفصح السيسي عن نيته في الترشح للمنصب الرئاسي، ويعتقد على نطاق واسع أنها لم تعد موضع ترحيب من جانبه بعد أن أصبح رئيساً، وهو ما فهم من تصريحات صدرت عن السيسي نفسه أو نسبت إليه، وقد أكد العديد من أنصاره ممن فازوا بعضوية البرلمان نيتهم في اقتراح تعديل هذه النصوص فور دخول البرلمان لتوسيع صلاحيات الرئيس وتقليص صلاحيات البرلمان. 2- تقف على رأس السلطة التنفيذية شخصية تستند إلى قوة صلبة ومتماسكة، تمثلها المؤسسة العسكرية، في مرحلة يوشك فيها عدد كبير من الدول العربية على التحول إلى دول فاشلة. لكن هذه الشخصية وصلت في الوقت نفسه إلى السلطة عبر عملية هي أقرب إلى الاستفتاء منها إلى الانتخابات. فلم يترشح أمام السيسي سوى مرشح واحد، وحصل على أكثر من 97 في المئة من أصوات الناخبين. وأي نظام يقوده رئيس استثنائي أتى في ظروف استثنائية لا بد أن يكون موقتاً بطبيعته ومعرضاً للتغير فور زوال الظروف التي أفرزته. 3- هناك برلمان يبدو في ظاهره من أكثر البرلمانات تنوعاً في تاريخ مصر الحديث، سواء بحكم عدد الأحزاب الممثلة فيه، والتي تبلغ عشرين حزباً، أو بحكم حجم التمثيل غير المسبوق للفئات المهمشة، بخاصة الأقباط والمرأة وذوي الإعاقة وغيرهم. غير أنه، وبرغم ما يتسم به هذا البرلمان من تنوع ظاهري، إلا أنه يعد في حقيقته «برلمان اللون الواحد»، سياسياً وأيديولوجياً على الأقل، لخلوه من أي معارضة حقيقية أو فاعلة. لذا فليس من المتوقع أن يلعب دوراً يذكر في تشكيل الحكومة أو في ممارسة رقابة فاعلة عليها، أو في مكافحة الفساد. وهو أيضاً برلمان مفتت لا يستطيع إفراز كتل برلمانية كبيرة لديها هامش واسع من القدرة على الحركة والمناورة، لأن حوالى نصف أعضائه من المستقلين ولأن أكبر الأحزاب فيه لم يحصل إلا على حوالى 10 في المئة فقط من المقاعد. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه برلمان يفتقر إلى «مايسترو» مؤهل لضبط إيقاع الأداء التشريعي والرقابي والحيلولة دون تحول ساحته إلى مجرد قاعة فسيحة تصطخب فيها صراعات صغيرة للحصول على مكاسب أو لتصفية حسابات شخصية أو لإبرام صفقات مشبوهة على حساب الوطن، لأدركنا أننا إزاء واحد من أكثر البرلمانات غرابة في تاريخ مصر الحديث.