شكل الحراك الأخير للجماعات الجهادية المسلحة في شمال مالي والصحراء الكبرى منعطفا في مسيرة الحرب الدائرة بين هذه الجماعات من جهة، والقوات الفرنسية والدولية والمالية من جهة أخرى. فبعد ثلاث سنوات من دخول القوات الفرنسية والأفريقية إلى مدن وبلدات أزواد في شمال مالي وطرد الجماعات الجهادية من أغلبها، ورغم مواصلة الحرب الفرنسية يوميا على هذه الجماعات، عبر مرحلتها الأولى (سرفال) التي كان الهدف منها تحرير الشمال المالي من قبضة الجهاديين وإخراجهم منه، ثم تلتها المرحلة الثانية وهي "عملية بارخان" التي استهدفت القضاء نهائيا على تلك الجماعات، فإن الحضور المتنامي للجهاديين والعودة القوية لهم خلال الأسابيع والأشهر الماضية، شكلت صفعة قوية للجهود الفرنسية وفشلا في تحقيق المهمة الرئيسية وهي القضاء النهائي عليهم. فقد كانت عملية احتجاز الرهائن في فندق راديسون بالعاصمة المالية بماكو خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي نفذها تنظيما "المرابطون" بقيادة الجزائري المختار بلمختار، و"إمارة الصحراء الكبرى" في تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي بقيادة الجزائري "جمال عكاشة" المكنى "يحيى أبو الهمام"، مناسبة للتوقف وقراءة نتائج ثلاث سنوات من المواجهة بين الجهاديين والفرنسيين في مالي. " كانت فرنسا وحلفاؤها الماليون والأفارقة يأملون أن تكون السنوات الماضية كافية لكسر شوكة الجماعات الجهادية، لكن نجاحها في اختراق التحصينات والوصول إلى "راديسون" شكل ضربة موجعة للفرنسيين والماليين، بل وحمل رسائل للقوى الغربية الساعية إلى القضاء على قادة تلك الجماعات " فقد كانت فرنسا وحلفاؤها الماليون والأفارقة يأملون أن تكون تلك السنوات كافية لكسر شوكة الجماعات الجهادية، والتأثير بنسبة كثيرة على قوتهم الضاربة وقطع الطريق على فرصهم في إلحاق الأذى بخصومهم، لكن نجاحهم في اختراق التحصينات الفرنسية والمالية والوصول إلى "راديسون" وسط العاصمة -رغم الإجراءات الأمنية المشددة في محيطه، حيث يحتضن مكاتب للخطوط الجوية الفرنسية، ويشكل النزل الأهم لإقامة المسؤولين الفرنسيين والدوليين في بماكو-واحتجاز عشرات الرهائن وقتل عدد كبير منهم، كلها أمور شكلت ضربة موجعة للفرنسيين والماليين، بل وحملت رسائل عديدة للقوى الغربية الساعية إلى القضاء على قادة تلك الجماعات وتصفية عناصرها. فقد جاء هذا الهجوم الذي خطط له أمير تنظيم "المرابطون" المختار بلمختار بعد أشهر قليلة من إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن استهدافه في ليبيا بغارة جوية، وترجيح الحكومة الفرنسية مقتله خلال تلك العملية، قبل أن يتبن أنه ما زال على قيد الحياة، وقادرا على ضرب الفرنسيين والغربيين بقوة حيثما أراد. عودة بلمختار وتتواصل رسائل التنظيمات الجهادية المزعجة للفرنسيين وسائر القوى المحاربة لهم، فبعد عملية فندق راديسون، التي كانت بتنسيق مشترك بين القاعدة و"المرابطون"، كشفت التنظيمان عن مفاجأة جديدة في خطة إعادة التموقع والتشكل، وهي اندماج تنظيم "المرابطون" في تنظيم "القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي" ومبايعة قيادته. ويعني هذا أن المختار بلمختار قرر العودةمن جديد لحضن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بعد ثلاث سنوات من القطيعة إثر انسحابه منها نهاية عام 2012، وتأسيسه جماعة "الملثمون" ثم تنظيم "المرابطون" بعد دمج "الملثمون" مع تنظيم جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، منتصف عام 2013. ويمكن القول هنا إن دمج التنظيمين ومبايعة "بلمختار" من جديد لأمير قاعدة المغرب الإسلامي "عبد الملك دوركدال" المكنى "أبو مصعب عبد الودود"، تشكل عملية تكامل بين قيادي جهادي يعتبر الأكثر إثارة للجدل في الصحراء الكبرى، والمطلوب الأول في شمال وغرب أفريقيا، وبين تنظيم يعتبر الأكبر في المنطقة من حيث العدد، والأرسخ من حيث التاريخ والتطور. فـ بلمختار يمتلك قدرة فائقة على التخفي وشبكة علاقات واسعة في المنطقة، أقامها خلال 12 سنة من الإقامة في صحراء أزواد بشمال مالي تنقل خلالها بين شمال النيجر وجنوب وشرق ليبيا، فضلا عن حنكته وقدرته على تخطيط وتنفيذ عمليات نوعية، والإيغال في إلحاق الأذى بخصومه. " لا يمكن الحديث عن وحدة العدو كدافع وحيد للتنظيمين لتوحيد جهودهما، فهناك خصم جديد من النوع الذي لم يتوقعانه السنوات الماضية، فرض نفسه بقوة في ساحة الحركة الجهادية العالمية، ويتعلق بالظهور القوي لدعاة تنظيم الدولةبالمنطقة " وهذا ما حصل في الهجوم على مجمع تيغونتورين للغاز ببلدة عين آميناس جنوب الجزائر مطلع عام 2013، الذي قتل فيه عشرات الرهائن الغربيين بعد يومين من احتجازهم، وكذلك العملية المزدوجة التي نفذها في مدينتي آغاديرز وآرليت في النيجر منتصف عام 2013، واستهدفتا أكاديمية عسكرية ومركبا صناعيا لليورانيوم تابعا لشركة آريفا الفرنسية، وكذلك عمليتي احتجاز رهائن في كل من سيفاري وبماكو خلال عام 2015. في حين يمتلك تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كتائب وسرايا عالية التدريب والتأهيل تنشط في شمال مالي وبأعداد كبيرة، وبذلك يكون الخطر الذي يواجه الفرنسيين وحلفاءهم قد تضاعف في المنطقة، والمهمة التي استجلب لأجلها الفرنسيون قواتهم في يناير/كانون الثاني 2013، وهي القضاء على الجماعات الجهادية وتخليص المنطقة منها، قد زادت صعوبة وتعقيدا، إن لم تكن آذنت بالفشل أو التعثر على الأقل. مواجهة الخصوم غير أنه لا يمكن الحديث عن وحدة العدو المحارب كدافع وحيد للتنظيمين لتوحيد جهودهما، تعاونا في البداية واندماجا في النهاية، فهناك خصم جديد من النوع الذي لم يتوقعه التنظيمان في السنوات الماضية، فرض نفسه بقوة في ساحة الحركة الجهادية العالمية، ويتعلق الأمر بالظهور القوي لدعاة تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة. وهو ظهور اقتصر حتى الآن في منطقة الصحراء الكبرى على أفراد محدودين وعدد من الشباب غير المنتظمين في خلايا أو سرايا، لكنه ظهور مؤهل للتفاقم والبروز كمنافس قوي لأتباع تنظيم القاعدة في المنطقة، خصوصا وأن الساحات المجاورة للصحراء بدأت خريطة السلفية الجهادية فيها تعيد تشكلها على ضوء الظهور القوي لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا والعمليات النوعية له في تونس، ومبايعة بعض المجموعات المنشقة عن القاعدة له في الجزائر، فضلا عن إعلان جماعة بوكو حرام ذات الارتباط التاريخي بقاعدة المغرب الإسلامي، الولاء له وبيعة خليفته أبو بكر البغدادي. ظهور بين السكان مظهر آخر من مظاهر العودة القوية للجماعات الجهادية في شمال مالي، هو الظهور شبه اليومي لعناصر هذه الجماعات في التجمعات السكانية، وأحيانا بمجموعة سيارات وأعداد معتبرة من المقاتلين، وقيامهم بعدد من عمليات الاغتيال التي استهدف قياديين من الحركات الأزوادية متهمين بالتعاون مع القوات الفرنسية، وتوزيع بيانات ومناشير في الأسواق المحلية وعند نقاط المياه تحذر السكان المدنيين من مغبة أي نوع من التعاون مع العدو. هذا فضلا عن تحركات يومية وفي وضح النهار في المناطق الجبلية والصحراوية في أقصى شمال أزواد، وتنفيذ هجمات وكمائن متلاحقة استهدفت دوريات وقواعد عسكرية للقوات الدولية والفرنسية العاملة في مالي، إضافة إلى قيام عناصر من جماعة "أنصار الدين" بجباية الزكاةمن السكان في عدد من القرى والآبار، في رسالة قوية تؤكد عودتهم لتسيير شؤون الناس ولو بشكل جزئي ومؤقت. " يمكن تفسير عودة الظهور القوي للحركات الجهادية في شمال مالي خلال الفترة الأخيرة، بأنه -ضمن أمور أخرى- استغلال واضح من تلك الحركات لانشغال الفرنسيين في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بعد هجمات باريس الأخيرة " وكان الظهور الأبرز والذي شكل تحديا حقيقا للقوات الفرنسية والدولة في مالي هو قيام رتل من 14 سيارة تحمل عشرات المسلحين من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي بقيادة "عبد الرحمن طلحة" أمير سرية الفرقان، باقتحام مؤتمر قبلي كبير للسلم والمصالحة، تنظمه القبائل العربية في مالي في بلدة "بواجبهة" نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، برعاية الحكومة المالية والقوات الدولية، حيث وصل مقاتلو القاعدة إلى المؤتمر قبل منتصف النهار، فيما سموها "زيارة مباركة ودعم" للقبائل العربية. وتحدث خلال المؤتمر قياديون بارزون في تنظيم القاعدة، مقدمين التهنئة للمؤتمرين، ومعلين تأييدهم لمطالب السكان المحليين، لكنهم حذروا في الوقت نفسه الحاضرين من شيوخ القبائل وأفرادها من مغبة التعاون مع الفرنسيين أو الماليين في حربهم ضد التنظيمات الجهادية، وقال المتحدث باسم القاعدة خلال المؤتمر إن فرنسا أخفقت في مواجهتها مع القاعدة والحركات الجهادية في مالي، وباتت تعتمد سياسة جديدة تقوم على إستراتيجية تجنيد الأهالي وتوريطهم في حرب ضد الجهاديين. ويجمع المراقبون على أن قيام رتل من القاعدة بهذا الحجم بالتحرك والوصول في وضح النهار إلى مؤتمر قبلي ضخم ترعاه الأمم المتحدة والحكومة المالية وعقد بالتنسيق مع القوات الفرنسية، على بعد كيلومترات معدودات مع قواعد الجيش الفرنسي والمالي، يشكل رسالة تحد حقيقية، مفادها أن القاعدة لا تزال قوية وأن الحرب الفرنسية والدولية على الجهاديين لم تؤت النتائج المرجوة منها. ويمكن تفسير عودة الظهور القوي للحركات الجهادية في شمال مالي خلال الفترة الأخيرة، بأنه -ضمن أمور أخرى- استغلال واضح من تلك الحركات لانشغال الفرنسيين في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بعد هجمات باريس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. فقد تحولت بوصلة السياسة الخارجية الفرنسية إلى السعي لتشكيل تحالف دولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وباتت الجهود المبذولة في الحرب على الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في شمال مالي والصحراء الكبرى في مرحلة غير متقدمة من أولويات الاهتمامات الفرنسية.