حشود الأساطيل الحربية العالمية في البحر الأبيض المتوسط، من أميركية وروسية وفرنسية؛ لأجل محاربة تنظيم (داعش) الإرهابي يُعيد العالم إلى أجواء ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً خلال إبرام اتفاقية (سايكس بيكو) السرية في مايو 1916م بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية. تلك الاتفاقية الاستعمارية التي كشف النقاب عنها الشيوعيون الروس العام 1917م، بعد ثورتهم البلشفية على الحكم القيصري، ووصولهم إلى سدة السلطة، وقيام ما عُرف بالاتحاد السوفيتي. وبموجبها تم تقاسم الأراضي العربية في الإمبراطورية العثمانية، وتحديداً دولة الشام الكبير، التي تشمل: (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن). من يتمعن في جغرافية تلك الاتفاقية الاستعمارية يلحظ أنها لم تمس (الأراضي التركية) للدولة العثمانية، رغم أن أهل التاريخ كانوا وما زالوا يقولون إنها لتقسيم تركة (الرجل المريض)، ويقصدون بها أراضي الخلافة العثمانية، كونها في الواقع تركزت في بلاد الشام العربية، التي كانت بالأساس تعارض الحكم العثماني (التركي) في أواخر سنوات الخلافة، خصوصاً بعد ظهور القومية العربية كصدى للقومية التركية الطورانية، المتسربلة بالرداء العلماني الغربي. من ذلك التقسيم خرجت روسيا القيصرية خالية الوفاض، حيث استأثرت كل من بريطانيا وفرنسا بالعراق والشام، إلى جانب مصر وبعض دول الخليج العربي. فهل تكالب الدول الغربية (أمريكا وبريطانيا وفرنسا) على المنطقة العربية بتلك القوات العسكرية يأتي في إطار تأكيد فعلي وواقعي لوجودها حمايةً لمصالحها؟ وهل عودة روسيا بهذا الثقل العسكري يعبّر عن عودة (لعبة الأمم) في المنطقة العربية، وتحديداً في الشام؟ وأنها لن تكرر خطأ روسيا القيصرية، فتخرج خالية الوفاض هذه المرة، خاصةً بعد لقاءات (أوباما - بوتين)، ثم لقاء (بوتين - نتنياهو)، فضلاً عن لقاءات بوتين بالأوروبيين، ما يعني التنسيق الرسمي لتأكيد أمن وسلامة إسرائيل في ظل التدفق الروسي العسكري الكبير، والتعهد بعدم المساس بالمصالح الغربية. فروسيا اليوم توجد في أكثر من موقع إستراتيجي بسوريا؛ فهناك القاعدة الروسية البحرية في طرطوس، وهناك التعزيزات الروسية الضخمة التي تتخذ قاعدة (حميميم) بمطار باسل الأسد على الساحل السوري مقراً لها، كما تقوم روسيا حالياً ببناء قاعدة جوية ضخمة في جنوب اللاذقية، إلى جانب نشر منظومة صواريخ 400 . الوجود الروسي في سوريا وتوسيع نطاقه بشكل كبير بالدبابات والآليات والمقاتلين والطائرات المقاتلة، والدعم غير المحدود لنظام الأسد، الذي يقتل شعبه منذ أربعة أعوام؛ كل هذا لن يتم بهذه الكيفية وتلك السرعة دون موافقة غربية ضمنية، سواءً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، أو الدول الأوروبية وبالذات بريطانيا وفرنسا، وذلك قياساً على مواقف هذه الدول خلال سيناريو الأحداث المتتابعة على الأرض السورية. فقد كان الحل العسكري لإسقاط نظام الأسد مطروحاً بقوة من جانب الأمريكان والفرنسيين، ومع اقتراب الجيش الحر من دمشق، ظهرت (داعش) في المشهد السياسي، وبدأت أصوات الأمريكان تخفت حتى توارت بخصوص الحل العسكري، في مقابل الموقف الروسي والإيراني الداعي إلى حل سياسي مع بقاء الأسد، إلى أن انتهى الموقف الغربي بشقيه (الأمريكي والأوروبي) إلى وجهة النظر الروسية الإيرانية، وذلك بالتوافق على حل سياسي واستبعاد الخيار العسكري لإنهاء الأزمة السورية نحو دولة مدنية ديمقراطية علمانية؛ لدرجة أن الإدارة الأمريكية قالت إنه ليس مطلوباً أن يُرسل الأسد فوراً، أما البريطانيون فلم يمانعوا بوجود حكومة انتقالية تضم الأسد. والمضحك أن وزير خارجية أمريكا يقول إنه يمكن دمج السنة في حكم سوريا، وكأنهم أقلية، وهم واقعياً يشكلون الأغلبية. كل هذه المعطيات؛ وبالذات ما يتعلق بالروس الذين عادوا بقوة وبتدفق عسكري كبير بعد مائة عام، يشير إلى (سايكس بيكو جديدة) في ظل إرهاصات التقسيم؛ فكما قسموا الشام الكبير بالأمس في (سايكس بيكو) الأولى يسعون اليوم إلى تقسيم سوريا إلى ثلاث دول: (كردية، وسنية، وعلوية). خاصةً أن أغلب القصف الروسي متركز على قوى المعارضة الموجودة في تماس مع الساحل الغربي، ما يعني أن روسيا تدفع نحو تأسيس (سوريا المفيدة)، التي يحكمها الأسد على الساحل السوري الغربي، وبهذا تحمي روسيا مصالحها في سوريا والمنطقة العربية ككل، إنها لعبة الأمم مرة أخرى تحت غطاء محاربة (داعش)، وهو يقارب للسيناريو الأمريكي في محاربة تنظيم (القاعدة) للوصول إلى آسيا الوسطى عن طريق أفغانستان، ولاحقاً إسقاط نظام صدام للتموضع في العراق.