كان إدوار الخراط حالة إبداعية فريدة على كل المُستويات، تجمع بين طياتها الكثير من المُفارقات والتناقضات.. إنه القبطي المتصوف الذي انتمى للثقافة الإسلامية وأخلص لها ونبش تراثها بدأب غير معهود، وهو ابن الطبقة المتوسطة المحافظة والثوري الجامح في نهاية الأربعينات، وهو الصعيدي المولود في الإسكندرية، وهو المُبدع الذي حاصرته مهام وظيفته لفترة طويلة، والمُترجم الدؤوب، والفنان التشكيلي. كان الخراط شيخ طريقة أدبية جديدة، باغتت الأوساط الثقافية العربية في نهاية السبعينات، وقدم إلى المكتبة العربية مشروعاً ضخماً ذا طبيعة مُختلفة؛ أثارت جدلاً حاداً. كان الخراط قد وضع الملامح الأولى لطريقته الجديدة في مجموعته القصصية الأولى حيطان عالية عام 1959، إلا أنها اكتملت وتعمدت بإصدار روايته ودُرته الخالدة رامة والتنين؛ التي كتبها بلغة فريدة ومُتفردة؛ تلتزم الحد الفاصل بين العفوية المُتدفقة والقصدية المُحكمة، ولها قدرة غير محدودة على وصف المحسوسات والمُجردات معاً. لغة تخترق الوعي وتجوس فيه وتجمع شتات شذراته وشطحاته وتصنع منها ضفيرة قوية ورهيفة، تُنهك العقل والروح وهي ترتقي بهما إلى مصاعد النشوة. لغة لها وضوح النثر ومُباشرته وانبساطه وسلاسته وتدفقه، ولها كذلك كثافة الشعر وجرسه الموسيقى وانغلاق شفراته وسطوة خطابه، لغة تلجأ أحياناً إلى الأصالة والاعتماد على قيمة الحرف المُكرر في كلمات الجملة الواحدة؛ وتمتد لفقرة كاملة أو عدة فقرات، كأنها حالة صوفي، ولهاث روحي خلف إيقاع يخرج من عمق جسد فقد القدرة على التعبير والتواصل بالكلمات المُقولبة ذات المعاني الجاهزة، وفي أحيان أخرى تحتفي هذه اللغة بقيمة الصمت، والحذف والاكتفاء بالتلميح الإشاري. لغة تحاول التعبير عما تعجز الكلمات الوظيفية توصيله أو التعبير عنه، إنها لغة عصية على التصنيف، استمدت سحرها من قدرتها على استحضار الضفيرة المعرفية البشرية من كتاب الموتى، ومتون الأهرام إلى الأساطير اليونانية إلى عالم ألف ليلة وليلة، إلى أشعار المتصوفة وكتبهم النثرية، وتجاور بين المفردة التراثية والمفردة الحداثية في سياق واحد يستفيد منهما ويضيف إليهما دلالات جديدة. بالطبع ليست لغة الخراط سهلة أو مجانية، بل هي كثيفة ومُغلقة على نفسها في بعض الأحيان، وكثيراً ما تحيل القارئ إلى منظومة معرفية خاصة بذاتها؛ كما يفعل الشعر الصوفي، ولا تؤتي ثمارها إلا بإجهاد العقل والروح معها، ورغم ما أثارت هذه اللغة من جدل، ورغم مُحاولات بعض رفاقه وتلاميذه ودراويشه مُحاكاته، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه من اتزان رهيب في دقة الوصف والتعبير والقدرة على خلق حالة وجدانية نافذة إلى الروح. ويرى الخراط في كتابه أنشودة الكثافة أن كثافة اللغة تعني غنى في الخبرة القصصية ذاتها، ويؤمن بضرورة البحث عما في الواقع من كثافة، ولقد كانت اللغة هي المُحرك في رواية رامة والتنين، وتمكن الخراط عبرها من خلق عالم لم تعهده الرواية العربية من قبل، وحولت علاقة الحب بين ميخائيل ورامة، إلى ملحمة ذهنية ووجدانية بمعنى الكلمة.. لقد قدم الخراط علاقة حُب لم يعرف الأدب العربي مثلها، وجعل من بطليها رمزين دون إخلال بحضورهما الإنساني، ميخائيل الشاب القبطي المُثقف الواعي الذي يتعذب بوعيه في مواجهة شراسة الحاضر وتناقضاته، ويتحول إلى دونكيشوت؛ ينقلب على ذاته ويحاربها، بدلاً من محاربة طواحين الرياح، ميخائيل المسحوق والمنطوي على ذاته، والثوري المُتطرف فكرياً وعاطفياً، الذي يحتار أمام تصاريف القدر ومأزق الوجود؛ والذي يُشبه نفسه بأنه هاملت الواحد الذي لا يريد أبداً أن يكون فرداً من قطيع، والذي يُمثل إدوار الخراط نفسه، ويُمثلني ويمثلكم بعض الأحيان أو كل الوقت. يطارد ميخائيل نوستالجيا الطفولة والصبا، ويُمعن في استحضار لحظات وعيه الأولى ويرى نفسه في منتصف العمر، لم أشف بعد من طفولتي. وعلى غرار الرهبان والدراويش، ينقطع عن العالم بالهرب إلى الماضي الإنساني؛ إلا أنه يتوقف قليلاً عند ماضي مصر الفرعوني والقبطي والإسلامي على السواء، الحنين إلى الماضي هو إحدى سمات ميخائيل؛ ابن الطبقة المتوسطة المصرية التي تستعين بالماضي في مواجهة الحاضر، وتبحث فيه عن التعزية والسلوى، إلا أن بطلنا ينبش الماضي وآثاره وأطلاله بحثاً عن الوطن/الأم، والوطن/ الحبيبة، والوطن/الملجأ ضد أهوال اللحظة الراهنة. وتظل رامة هي الموضوع الراهن الوحيد الذي يتمسك به ميخائيل بكل كيانه، وبكل ما بقي له من عمر، وعلى نحو يليق بأبطال التاريخ المهزومين المأزومين.. يرى حبيبته في تجليات مُختلفة عبر العصور، ويُسبغ عليها كل ملامح الماضي القريب والبعيد؛ فهي بالنسبة له إيزيس وعشتار وفينوس وأفروديت وبرسيفون، والنموذج الأصل للأنثى، يتحقق البطل المهزوم بالاقتراب من حبيبته، ولكنه يتعذب في ذات الوقت، ويكتشف أنه سقط في موقف وجودي أكثر التباساً وتعقيداً. أما رامة فهي النموذج الصافي للجمال والثقافة والحضور وتقلب المزاج والاندفاع في الحب، وهي المُقابل العملي لرومانسية ميخائيل المُفرطة، تبحث عن الاكتمال النفسي والجسدي في الحب ومن الحب، وتستخف أحياناً بمازوخية حبيبها. تتجلى ثورية رامة في الالتحاق بالمقاومة الشعبية أثناء العدوان الثلاثي، والانخراط في تنظيمات سياسية ثورية، بينما تنحصر ثورية ميخائيل في التماسك النظري حول أفكار وشخصيات تاريخية، والاكتفاء باحتقار أفعال السلطة، والاستعلاء على من يتمسكون بالرغبة في المقاومة، ووصمهم بالتوهم، تمتد هذه الثنائية بين الحبيبين في الكثير من تفاصيل الحياة، والعديد من المفاهيم حول الحياة والوجود، وتتحول الحوارات بينهما إلى معارك فكرية وجدال فلسفي بين طرفين مُتناقضين، لدرجة تكشف البون الشاسع بينهما، وتوحي بأن كلا منهما يكتمل بالآخر. رامة، هي محور الرواية الذي يدور حوله جسد ميخائيل ووعيه، وهي موضوع لوصف مُركز يجعلها أيقونة للجمال المُطلق لدرجة تجعلها تبدو نموذجاً في بعض الأحيان، ولكنه نموذج واقعي نابض بالحياة، نموذج نحتاج إليه دائماً، ونطارده أبداً، ولا نعثر عليه مُطلقاً. تحرك الخراط طولاً وعرضاً في السياق الروائي، دون التقييد بالقيم المعيارية التي صكتها روايات من سبقوه، ورفض الانصياع إلى الإطار السردي التقليدي، وشروط الحبكة النمطية، انتهك الخراط منطق الترتيب الزمني المُعتاد، واستند إلى الزمن النفسي لبطله؛ وانطلق من اللحظة الآنية إلى لحظات التاريخ الجمعي والماضي الشخصي بمرونة مُطلقة، وهو لا يتعامل مع التاريخ باعتباره وقائع مُتتابعة، بل يستخلص منه اللحظات الخاصة ويحتفي بالهامش، ويتعامل مع الأسطورة باعتبارها حقيقة تعلو فوق الواقع.. أما المكان فقد تحول إلى حالة أكثر منه حدود جغرافية؛ حالة تتشكل وفق وعي البطل في لحظة بعينها مخلوطة بحالته النفسية وبتاريخه مع مُفردات المكان. وكان تركيز الخراط على لحظات اللاوعي لافتاً، واستخدم لغته الخاصة في شرح طريقة التفريغ النفسي عبر التداعي الحر مُستفيداً من تراث عالِمي النفس الأشهر، فرويد ويونج، وباحثاً في الدلالات الرمزية لأحلام النوم واليقظة. وفي عام 1985، أصدر الخراط رواية الزمن الآخر بنفس الروح والمُفردات والشخصيات، ثم اختتم تلك الثلاثية الروائية برواية يقين العطش، وحملت بقية رواياته بعد ذلك بصمات هذا العالم، إلى جانب ترانيمه في عشق الإسكندرية؛ موطن طفولته ومضارب أحلامه، ونحن نرى بوضوح ملامح مشروعه السردي في القصة القصيرة كذلك، ويمكن القول إن المقطع السردي هو الوحدة الأساسية لديه سواء في كتابة الرواية أو القصة القصيرة، والفارق الوحيد بينهما يكمن في زاوية التناول وليس في البنية أو الرؤية أو اللغة. ولجأ الخراط كثيراً إلى تقنية الكولاج التي تعتمد على المجاورة بين عدة مقاطع سردية مختلفة ومتنوعة، إلا أنها قادرة على خلق حالة واحدة. وهي تقنية استمدها من شغفه بالفن التشكيلي، كان قد أقام عدة معارض فنية تعتمد أغلب لوحاتها على تقنية الكولاج، وكان الخراط يلجأ لهذه التقنية في تناول موضوعه الأثير؛ الحنين إلى الماضي، والنبش في الذاكرة، وكثيراً ما كان الخراط ينشر قصصه القصيرة في المجلات، ثم تتحول بعد ذلك إلى فصل في رواية، أو قصة ضمن متوالية قصصية، وفي اعتقادي أن مشروع الخراط السردي هو نص واحد مُمتد ومفتوح ومُتداخل، والفصل بين وحداته فصل إجرائي وليس جمالياً أو معرفياً. كان الخراط ناقداً، ويعرف كيف يدافع عن إبداعه، ويؤطر له نظرياً، ويصك المصطلحات، ويشرح المفاهيم والرؤى، ومن أشهر كتبه النقدية الحساسية الجديدة عام 1993 الذي تناول فيه الظاهرة القصصية، ووضع الأطر النظرية لمشروعه الأدبي، وبعدها بعام واحد، أصدر كتابه الكتابة عبر النوعية، وفي العام التالي أصدر كتابه النظري الثالث أنشودة الكثافة، الذي يطرح فيه رؤيته كاملة وموقفه من اللغة والواقع وفكرة الغموض، ووظيفة الأدب. ولم يتوقف الخراط عند حدود النقد النظري، بل نشر العديد من دراسات النقد التطبيقي تناول فيها الكثير من الشعراء وكتاب القصة والرواية بالنقد والتحليل وفق نظريته في الكتابة، وساهمت كتاباته النقدية في توضيح الرؤية وفتح آفاق جديدة لجيل الثمانينيات.. كما نشر الخراط كتباً نقدياً عن الفن التشكيلي عدلي رزق الله: مائيات 86 عام 1986. قدم الخراط مشروعاً مُتكاملاً، واضح الملامح، أثار جدلاً واسعاً، وكان استقباله حدياً للغاية، فأغلب القراء والنقاد إما يرفضون هذا المشروع بحسم، أو يسلمون به ويتحولون إلى مُريدين، ونادراً ما نجد أحد قراء الخراط يقف في منطقة وسطى بين الرفض والقبول. وسرعان ما تجمع المُريدون من الشعراء وكتاب القصة والرواية حول شيخهم رغم ما تعرض له من نقد لاذع في بعض الأحيان. لعب الخراط دوراً محورياً منذ أواخر السبعينات في دعم جهود الشباب من أجل خلق حركة إبداعية جديدة، وكان شيخ طريقة بالنسبة لعشرات، ومئات من الشعراء وكتاب القصة والرواية.. وجدوا لديه ضالتهم المنشودة، سواء في كتاباته الإبداعية أو النقدية. ولأن الخراط كان شيخ طريقة فريد، ويرفض فكرة القطيع، فقد تأثر تلاميذه ومُريدوه بأعماله إلى حد كبير، إلا أنهم لم يحاولوا استنساخه أو تقليده، ووصلوا إلى درجة كبيرة من النضج الفني في زمن قياسي. ترك الخراط نحو مئة كتاب بين رواية ومجموعة قصصية وديوان شعري ودراسات نظرية وتطبيقية وترجمات، إلى جانب عدد من المسرحيات المُترجمة والبرامج التي بثتها إذاعة البرنامج الثقافي من القاهرة، وهو تراث ضخم بقيمته الجمالية والفكرية أثر في جيلين من المُبدعين العرب حتى الآن، وسوف يمتد تأثيره إلى عدة أجيال قادمة.