لم يكن ينقص العلاقات الروسية - التركية التي تسبح في بحر من العداء المزمن، أن تقدم أنقرة على إسقاط طائرة السوخوي الروسية الذي يعتبر أمراً سياسياً مهماً حاولت تركيا تبرير فعلتها. وبصرف النظر عن التبريرات التقنية للحادثة، يبقى توقيت التنفيذ له من الدلالات والخلفيات الكثيرة التي ستعيد قراءة الطرفين الروسي والتركي للعديد من قضايا المنطقة إلى المربع الأول، على أن هذه العودة ليست بالضرورة جر الطرفين إلى تصعيد يصعب الرجوع عنه، سيما وأن العديد من الحوادث المماثلة، تم احتواؤها بعدما وصلت الأمور إلى حافة الهاوية بين الجانبين. لقد أتى القرار التركي بالتصعيد العسكري بعد السياسي، ليكشف مدى ارتباك السياسة الخارجية التركية تجاه التحولات الروسية في المنطقة، وما يعزز هذا الإرباك فعلياً، الانزلاق التركي المدروس، باتجاه تحولها من دولة حاجزة للاتحاد السوفييتي السابق، إلى دولة مانعة ومواجِهة لروسيا حالياً، وهو أمر تدركه موسكو وتعرف دوافعه بدقة، سيما وأن تحليل موازين قوى الجانبين، يظهر الفوارق الشاسعة، الأمر الذي يؤكد المؤكد، من أن أنقرة ليست قادرة وحدها على اتخاذ أي خطوة نوعية تجاه موسكو ومنها إسقاط الطائرة دون موافقة أو علم الطرف الأمريكي، وفي أسوأ الحالات، تأكدها من غض الطرف الأمريكي - الأطلسي عن الفعل بهدف استثماره بمجالات شتى. لكن هذا الفصل والوصل التقليدي للحادثة، هو أمر يحاكي إظهار النتائج الأولية للحادثة، لكن الانطلاق إلى اتجاهات استراتيجية أبعد، يظهر صوراً أشد تعقيداً ومن بينها، انتقال موسكو من مرحلة استيعاب صدمة الطائرة المٌسقطة سياسياً، إلى استثمارها للرد استراتيجياً عبر نشر قوى عسكرية نوعية، كصواريخ أس أس 400 والطائرات الاستراتيجية الهجومية، إضافة إلى الطرادات البحرية، وهي سابقة لجهة نشرها خارج الأراضي الروسية وفي منطقة هي الأشد التهاباً في العالم، فماذا يعني ذلك؟ في المبدأ، لا يعتبر هذا الرد رداً ساحقاً، بقدر ما هو رد ردعي، لكنه ينطوي أيضاً على الدخول في لعبة كسر التوازن نوعياً، في منطقة لا تحتمل في الأساس عوامل تفجيرية إضافية، وهي لعبة خطرة تحتمل خيارات وسيناريوهات كثيرة، مجملها يصعب التحكّم بمساراتها بدقة، كما تنطوي على احتمالات الدخول في حسابات خاطئة، إن لم تكن غير مدروسة، وبالتالي إلى نتائج معروفة. ثمة تطلعات روسية لم تعد خافية على أحد، ومن بينها، إدراكها التام، ألاّ عودة إلى منافسة واشنطن في ريادة النظام الدولي، إلا من بوابة الشرق الأوسط، وهو كالضرب على اليد التي توجع الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، ما يستدعي مواجهة أمريكية أطلسية بأدوات مختلفة، ومن بينها التركية، لكن التدقيق في المواقف الفعلية لا تشي بهذه المواجهة والذهاب بها إلى النهاية. فالمبارزة العسكرية ومن ثم الدبلوماسية التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مباشرة بعد الحادثة، أظهرت بشكل واضح خوفه من عدم الاستجابة الأطلسية والأمريكية لنجدته، وخوفه أتى في محله عملياً، لذا تدحرجت مواقفه التراجعية بشكل متسارع، في وقت كان الرد الروسي مغايراً، لجهة التشدد في قراءة الحادثة والتعاطي مع ذيولها وتداعياتها، انطلاقاً من معرفة موسكو الدقيقة بحجم التبادل التجاري مع أنقرة، وهي أيضاً ضربة سُددت تحت الحزام التركي، ومن الصعب على السياسات التركية الخارجية تجاهلها كثيراً، بخاصة أن التبادل التجاري يفوق الأربعين مليار دولار سنوياً، علاوة على النشاطات السياحية التي يقوم بها الروس إلى تركيا، وهي تدخل مليارات أخرى إلى الاقتصاد التركي الذي يعاني حالياً مشاكل بنيوية كبيرة. فعلى الرغم من التصعيد المباشر، تدرك كل من موسكو وأنقرة، أن لعبة حافة الهاوية، لا ينبغي أن تصل إلى نهايات غير طبيعية، وأن الحادثة بمفاعيلها المختلفة والمتعدّدة الاتجاهات ستصيب روسيا وتركيا قبل أي طرف آخر. وعلى الرغم من إمكانية تكرار الحادثة مستقبلاً، إلا أن الطرفين يعرفان أيضاً مدى جسامة الحرب العسكرية في حال قيامها، لذا لجأت موسكو إلى حزمة من العقوبات الاقتصادية التي ليس على أنقرة إلا التسليم والقبول بها. يدرك قيصر روسيا، وسلطان تركيا، أن موسكو القادرة على مواجهة أنقرة عسكرياً لا تريد ذلك، كما أن أنقرة في قرارة ذاتها، متيقّنة من عدم قدرتها على مواجهة روسيا أولاً، وأن حلفاءها الأطلسيين والأمريكيين تخلوا عنها عند أول منعطف خطر ثانياً، فهل سيقرأ القيصر والسلطان في كتاب واحد، أم أن بعض الحسابات الخاطئة ستزيد الفجوات والثُغر بين البلدين. يبدو أن الطرفين سيقرآن في كتاب واحد، لكن كل على طريقته وبرغماتيته الخاصة به.