من الصعب جداً الإحاطة بمصطلح المخيلة imagination بشكل موضوعي، لأنه مصطلح واسع الثراء، ليس بما يتعلق بالقيم الوجدانية التي تساعد الإنسان على الاحتفاظ بتوازنه فحسب، وإنما بآليات تحرره كذلك من قيود الموروثات، وإثراء الأحاسيس والمشاعر والانفعالات، والتحليق بعيداً عن الواقع، وكذلك بالكثير مما يدخل تحت باب الحالات السيكولوجية التي لا تقاس بالمعايير المادية. المخيلة مصطلح يطلق على المقدرة في خلق صور جديدة ومتنوعة وثرية في الوعي الذاتي، من خلال عمليات ذهنية معقدة، يتم خلالها وضع الانطباعات المجمعة من الواقع الحسي في لوحة غير حسية، لها القدرة على إرشاد صاحبها إلى أبعاد غير منظورة سابقاً، وعزله عن واقع الحال. وقد يكون لبعض عناصر هذه الصورة ما يقابلها في الواقع المُدرك في لحظة معينة، إلا أن الصورة نفسها تعكس حالة لا اتصال مع هذا الواقع. يكتسب الإنسان القدرة على التخيل، من خلال العمل الذي يكسبه عناصر الصور التي تحتاجها المخيلة ممزوجة بإرهاصات الوعي الذي ينزع نحو الارتقاء بهذه العناصر. فالعمل من غير مخيلة خصبة، لا يعدو أن يكون تكراراً مملاً غير مجدٍ وغير منتج. وتكتسب الحياة مع وجود المخيلة الطابع الحقيقي لها، ألا وهو الارتقاء من حالة إلى حالة أخرى، وتلعب المخيلة الدور الهام في هذا التحول، عملية التخيل قد تكون إرادية، وقد تكون لا إرادية. تساعد القدرة على التخيل العلماء وطلاب العلم ومحبو الفنون والآداب، على وضع الفرضيات والمفاهيم والأفكار، فمن حيث المبدأ، فإن كل فكرة قادرة على الارتقاء تحتوي على عنصر من صنع المخيلة، ولولا وجود هذا العنصر الهام، لما أمكن تطوير أي فكرة أو مفهوم إلى مستوى نوعي أعلى. للمخيلة أهمية خاصة جداً في الإبداع العلمي والفني والأدبي، فهي القوة غير المادية التي تعمل على إخراج الصور الحسية ذات الطبيعة الذاتية، والتي ترتبط بعناصر الواقع غير الملموس لدى الشخص المبدع، إلى واقع ملموس بشكل من الأشكال لبعض الأفراد أو لمجاميع كبيرة من الناس. إن الصور التي تنتجها المخيلة، وتنبثق إلى الواقع، قد نستطيع التعبير عنها بلغة الكلمات أحياناً، وفي أحيان أخرى يأخذ نمط التعبير منحى آخر، تعبر عنه لغات أخرى، قد تكون حروفها رموزاً في معادلات رياضية، أو ألواناً توزعها ريشة رسام، أو أصواتاً تصدر عن آلة موسيقية أو حركات جسدية. الحديث عن المخيلة يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن نقيضها، ألا وهو العقلانية Rationalism التي تنفر من المخيلة ومن نتاجاتها وجموحها، فالدراسات الأولى لطبيعة المخيلة لم تعنَ بالتركيز على منشأها وبواعثها، بل عرضتها على أنها أعراض لحالات نفسية مختلفة تتفتح فيها الذات في فضاءات يغيب عنها العقل، هكذا حكم عليها غلاة العقلانيين. فقد نشأ المذهب العقلاني في أحضان الفلسفة التي تؤمن بالعقل، وتمجده وتلغي دور الإحساسات، ومن ثم التجربة في تكوين المعرفة، نشأ كمحاولة لتعليل الخصائص المنطقية للصدق الرياضي وعلوم الطبيعة التي تستند إلى الأسس الرياضية بشكل رئيس. وليس من المستغرب أن نرى أن كبار علماء الرياضيات من أمثال ديكارت ولايبنتز، هم من أوائل رواد هذا المذهب في القرن السابع عشر، تبعهم بعد ذلك أبرز من تبناه من الفلاسفة كانط وهيغل. فالمعرفة وفق المذهب العقلاني، يمكن استنباطها من العقل نفسه، وقد يكون أساس ذلك مفاهيم ذات طبيعة فطرية في العقل، كما ذهب إلى ذلك ديكارت، أو مفاهيم لا توجد إلا على هيئة استعدادات مسبقة في العقل، وتؤثر التجربة في ما بعد في المظهر الذي تبدو به المعرفة. تجد سلطوية المذهب العقلاني، نفسها في موقع الوسط بين تيارين متناقضين، يمثلان التحدي الأكبر له: السلطوية اللاهوتية أولاً، ورومانسية المخيلة ثانياً، وكلتاهما تلغي بعضاً هاماً من المذهب العقلاني، إلى درجة كافية لإحلال بديل عنه. فالسلطوية اللاهوتية تلغي إلى حد كبير دور الأحكام العقلية، وتتمسك بالمطلق، في حين تلغي الرومانسية بتوجهها نحو التفكير الإبداعي الحر، الصفة المطلقة للأحكام، دون أن تلغي كلياً دور العقل الهام في بعض مراحل اكتساب المعرفة. ويمكن القول بشكل عام، بأن الاتجاه الرومانسي هو المتحدي الأكثر خطورة للمذهب العقلاني، وذلك لأن ما يمتلكه من المرونة، وما يسبح فيه من آفاق، يولد المزيد والمزيد من المعارف والأفكار، التي لعبت عبر التأريخ الدور الهام في إضعاف سلطة المذهب العقلاني الصارمة. فرومانسية الفنانين التي استعارها علماء القرن العشرين، قد حولت أحلامهم إلى معطيات علمية، نقلت حياة الإنسان نقلات نوعية كبيرة. فالرومانسية التي تمنح الأشياء صيغاً متعددة في أبعاد غير منظورة، تقدم أشياء فعالة وإيجابية، وليست كسولة وبليدة وبديهية. وهنا، يجدر الإشارة إلى أن نمط تفكير المبدع، يرتبط بالمدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها، فالحديث عن المذهب العقلاني وعن المخيلة، فقط كمصادر للمعرفة فيه بعض التسطيح، وذلك لأن علوم العقدين الأولين من القرن العشرين التي شهدت ميلاد النظرية النسبية وفيزياء الكم، قد غيرت نظرتنا بشكل كبير، إلى ما اعتدنا حصر تفكيرنا في أطره التقليدية، ولم يعد أمامنا سوى النظر إلى المذهب العقلاني، على أنه علامة مميزة للماضي. فلم تعد العقلانية، ولم تعد المادية أو المثالية، فلسفات تصلح لما أتى به القرن العشرون من إنجازات عظيمة، لم تشكل قطيعة مع علوم الماضي، التي احتوتها ضمنها فحسب، بل مغادرة لفلسفاته.