عندما يأتي المطر ينفض عنا غبار فصولنا الشاحبة، ويغسل في دواخلنا سأم الحياة، فعلاقتنا بالمطر مدفوعة دائماً بمشاعر الحرمان، الناتجة عن انحسار خيارات الترفيه في مناخ صحراوي، لا يشبعها عادة إلاّ قطرات الماء من السماء، التي نستمتع فيها بكل أحاسيسنا، ونستقبلها بأهازيج الفرح، حتى والمطر يتربص بنا، ويؤلمنا مرة تلو الأخرى، في الكشف عن خبايانا، وبعض خيباتنا في بعض المشروعات المتلعقة بتصريفه، ويكشف لنا يوماً بعد آخر ماذا فعل الفاسدون بنا، ولهذا فإنّ المطر ربما يكون الزائر الوحيد القادر على إخراجنا من مخابئنا، ونسف برامجنا ومواعيدنا.. لا نستطيع مقاومة إغرائه متى حل بنا، ولكنه أيضا يعد ذلك الضيف المتمرس الذي لابد أن يكشف عن سوءاتنا، ويحدث أزمات، ويسقط ضحايا، ويدفعنا مرغمين إلى إعلان حالة الطوارئ عند قطاعاتنا، خصوصاً المرتبط عملها بخدمات السلامة والإنقاذ، تحديداً الدفاع المدني الذي يتحمل بالإضافة إلى مسؤولياته العظام بعض ممارسات احتفالية المطر من بعض المتنزهين، حتى صار كثيراً ما يدفع ثمن مغامرة مراهق تنقصه الخبرة نشبت مركبته في صحراء منزوية أو بطن وادي موحل، فاتصل بعمليات الدفاع المدني، يرغي، ويزبد، ويهدد في طلب سرعة تحريك الآليات لتخليصه من ورطته!. استعراض عنيف! ذات مرة سألنا متبسما رفيقنا الأسترالي من أصل عراقي ونحن نحط في مطار "جاكرتا": -عندما رأى مشاعر البهجة والسرور تسابق تناقلنا بشائر المطر- هل تفرحون بالمطر إلى هذه الدرجة؟، إلاّ أنّه لم يترك لنا فرصة الإجابة على سؤاله؛ إذ أجاب بنفسه: "آه.. محرومين.. معكم حق بلادكم صحراء، وغبار، ورمل، والمطر نادر، ولهذا تشدني صور مواكب السعوديين التي أشاهدها في التقارير الإخبارية المتلفزة، خصوصا صغار السن، وهم يتجهون إلى التلال الرملية، ومجاري الأودية، وينتشرون هناك عندما تمطر، في مشاهد لا توجد في أي بلد آخر غير بلدكم، خاصة فيما يتعلق في طريقة تعبيرهم عن استقبال المطر وإظهار الفرحة بحركات الاستعراض العنيفة وصعود الرمال، بتلك النوعية الفاخرة من السيارات"، وفجأة جنح إلى سؤال آخر قبل أن يفرقنا صوت مضيف الرحلة وهو يهنئنا بسلامة الوصول: "إلى هذه الدرجة رخيصة عندكم السيارات؟"، وبالطريقة نفسها أجاب مرة أخرى: "آه.. الرواتب عندكم عالية جداً، والدخل مرتفع، ونسمع بأنّ هذه السيارات يكافئ بها السعوديون أبناءهم عند اجتياز المرحلة المتوسطة!". كانت الرحلة قد انتهت، وانشغل كل مسافر بلملمة حقائبه، إلاّ أنّ رفيقنا في السفر فتح فيما بعد مجالاً طويلاً للنقاش بيننا، حول ماهية أو مستوى الطبقة التي تستخدم السيارة للتسلية والاستعراض؟، بما فيها التفحيط والتطعيس وما يندرج تحت هذا المصطلح من مسميات أخرى، فكان أحد الرفاق متشائماً لدرجة أنّه أصّر على أنّ كثيراً من هؤلاء هم "عيال المُدرسّات"، وأبناء الفقراء، ومتوسطي الدخل، الذين تشترى لهم بالأقساط الشهرية، أو قروض المداينات، ولا يملكون غيرها، ولم يتعبوا بجمع ثمنها، حتى يشعروا بقيمتها وثمن الحصول عليها، ثم يتكبد أهاليهم بعد ذلك تكاليف الصيانة والإصلاحات؛ الناتجة عن سوء الاستخدام، فيما يدفع المجتمع ومؤسساته ثمن الأخطاء والممارسات بما فيها الخارجة عن حدود اللياقة والآداب العامة. الجنرال "مطر" لن نتحدث خلال موضوع اليوم عن الحوادث والأزمات التي تحدث أو حدثت نتيجة قصور في المسائل الهندسية والتخطيطية والبنى التحتية لمشروعات تصريف السيول، وما تكشَّف ويتكشف عندنا يومياً بواسطة "الجنرال مطر" -كما أسمته افتتاحية "الرياض"-، بل سنتوقف عند هؤلاء الذين يعرّضون أنفسهم لأخطارها بمحض إرادتهم؛ نتيجة نقص الخبرة، وقصور في فهم طبيعة تلك السيول،- وأساليب التعامل الأمثل مع الأودية والصحاري التي يقصدونها في نزهات المطر، حيث لا يمر موسم إلا ويتردد على مسامعنا وتتناقل وسائل إعلامنا وأجهزة التواصل تلك النوعية المتكررة من الحوادث، وعلى السيناريو نفسه: تبدأ بالاستعراض وفرد العضلات أمام جمهور المتنزهين، وتنتهي بفاجعة أو إشغال الجهات الإسعافية عن مهامها الرئيسة؛ إذ تنوعت هذه الحوادث بين من يتيه في الصحراء، أو تبتلع مركبته "صيادات" الرمال، وبين الذين يدخلون الأراضي الموحلة، أو يندفعون في لحظة حماس إلى بطون الأودية أثناء جريانها، فتغوص أو تنجرف مركباتهم بمن فيها، وهنا يصعب أو يتعذر إنقاذ الأشخاص في الوقت المناسب، خصوصاً عندما تكون سيول قوية وجارفة. هوس "الغواية" وبحسب الحوادث المتكررة التي حدثت في السنوات الفائتة لحالات مختلفة؛ بعضهم أنقذ بواسطة الدفاع المدني أو بمساعدة المتنزهين أنفسهم، وبعضهم تحولت الجهود والأماني بعد ساعات وبعد فوات الأوان إلى أمل العثور على جثته قبل تحللها، أو نهشها من الوحوش والطيور الجارحة، حيث كان غالبية الضحايا والمغامرين من صغار السن والمراهقين، أو ذوي المراهقة المتأخرة، الذين يندفع أحدهم في لحظة من لحظات النشوة أمام الجماهير المحتشدة، ليحظى منهم بنظرة إعجاب أو كلمة إشادة، إلى جانب هاجس الانتصار لماركة سيارته، التي ربما يكون قد أخضعها لعمليات تعديل تفوق قيمتها، وفي ذهنه مقاطع الفيديو "اليوتيوب" التي ستطير بها أجهزة التواصل المتأهبة، وتروج بواسطة الذين يشاركونه هوس "الغواية" إلى فضاء المعمورة، بعد ما يركَّب عليها مقاطع الفخر والحماس بخلفيات غنائية وإنشادية راقصة، تشبه تلك التي تتوج بها ملاحم النصر الكبرى، أو يحتفل بها في مواجهات الفوز الحاسمة، إلى أن تستقر به مركبته إلى وحل أو مجرى سيل جارف، لا يفكر بعدها بغير حلم النجاة والخروج من المأزق، وهو يستمع إلى موجة التصفيق، وقد انتكست إلى صيحات البحث عن منقذ. كذب وإدعاء أحدثت هذه الظاهرة "ربكة" عند بعض قطاعاتنا، خصوصاً الدفاع المدني الذي عانى منها كثيراً، وأشغلته عن واجباته الرئيسة مع كثرة المتصلين على رقم الطوارئ في مواسم الأمطار وجريان الأودية؛ لطلب المساعدة فانصرف عن مسؤولياته إلى تتبع هؤلاء وإخراج سياراتهم العالقة في الرمال أو الوحل وعند مصاب الأودية ومجاريها، أو البحث عنهم في متاهات الصحراء، وتحريك طائرات البحث أحياناً، وقد يكون الأمر أسوأ عندما تعلق السيارة عند تجمعات مياه مجاري الصرف الصحي، كما يحدث كثيراً من قبل بعض هواة الصيد أثناء ملاحقته، فصار أصعب ما على المطعس والمغامر الذي خذلته خبرته في اجتياز التجربة أن يتصل على طوارئ الدفاع المدني بكل جرأة، طالباً حضورهم لإخراج سيارته، وقد يلجأ بعضهم إلى الكذب والإدعاء بأنّ معه عائلته، أو أنّه في خطر؛ حتى يضمن سرعة وصولهم، وقد حصل أكثر من مرة -وبحسب بعض رجال الدفاع المدني- أن خرجت فرق من قبلهم في طلب متصل ادعى أنّه عالق ومعه أسرة ثم تفاجأوا بأنّه أحد صغار السن، الذي لم يقدر حتى وجودهم والجهد الذي تكبدوه بعد تحرير مركبته، ووصل به الاستهتار أن واصل فوراً استعراضه أمامهم، وقبل انصرافهم!. تتبع المستهترين ولأنه من غير المنطق والمعقول أن نشغل جهازا مثل الدفاع المدني لديه مسؤوليات عظام مرتبطة بحياة الناس، في تتبع هواة الاستعراض المستهترين مع ما يتعرضون له أحياناً من إهانات وألفاظ غير لائقة فيما لو تأخر وصولهم لأي ظرف، حجتهم أنّ النظام بصفهم، فلا بد من إعادة تقييم المسألة من كل جوانبها بحدود ما يجعلنا قريبين من الواقع، ونحن هنا لا نتحدث عن مواطن يتعرض للخطر وفي أمر يعد من مسؤوليات الدفاع المدني -أياً كان السبب-، وإنما المقصود تلك النوعية من الشباب الذين تعلق سياراتهم في مغامرة تطعيس أو محاولة اجتياز مجرى مائي فاشلة، ثم يتصلون على عمليات الدفاع المدني في طلب الحضور الفوري لانتشال السيارة العالقة، إذ إنّ الكثير من منسوبي الدفاع المدني ليسوا راضين عن مثل هذا التصرف، حتى وهم على قناعة أنّ واجبات الدفاع المدني يجب عليها أن تتسع إلى ما هو أشمل من عمليات إنقاذ الأرواح والممتلكات بصورتها المعتادة، وعلى اعتبار أنّ ذلك يعد من المظاهر الحضارية المطبق على مستوى العديد من الدول المتقدمة، لكنه يطبق أيضاً في بيئة تواكبه تحضراً، فالناس هناك يمارسون هواياتهم مثلنا، ولكن من دون صخب، وفوضى، وعنتريات تستدعي تغيير آلية التعامل في الشأن المتعلق بطريقة مباشرة حوادثها، تعتمد على تقييم حالة طالب النجدة بعد الخروج إليه، وإذا ظهر بأنها نتيجة تهور وتفريط يكتفى بإنقاذ الأرواح -إن وجدت-، وما عدا ذلك يتعامل معه المرور أو الدوريات وبعض الجهات التي تبعث له بمعدة أو سطحة وعلى حسابه الخاص.