من المتسبب في حرمان آلاف المواطنين من الاستفادة من مئات المشاريع الحكومية التي تتجاوز نسبة التعثر في تنفيذها ثلاثين في المئة؟ قد تكون الإجابة شبه مستحيلة ولكننا تعودنا خلال الفترة الماضية إلقاء اللوم على شركات المقاولات التي دائما ماتبرر تعثرها بأعذار واهية وعلى رأسها عدم وجود الأيدي العاملة الكافية بسبب القرارات التنظيمية التي تصدرها وزارة العمل، وتأخر الدفعات المالية التي يعتمد عليها المقاولون لتوفير سيولة كافية لتنفيذ تلك المشاريع حسب الجدول الزمني المتفق عليه، والقائمة تطول. ولكن تلك التبريرات تخفي مشاكل أكثر عمقاً وأشد تعقيداً، وعلى رأسها الفساد بمختلف أشكاله ودرجاته الذي لا يحتاج إدراكه إلى خبير مالي أو مهندس معماري متخصص. تبدأ رحلة(التعثر) من خلال اعتماد ميزانيات مبالغ فيها لتنفيذ المشاريع الحكومية دون دراسة دقيقة للتكلفة الحقيقية لها والاحتياجات الملحة منها. فعندما تعتمد وزارة الصحة - مثلاً - مشروع مستشفى من غير المعقول أن يذهب جزء كبير من تلك الميزانية إلى تزيين المبنى بالرخام الفاخر والثريات الباهظة، ناهيك عن المكاتب الإدارية الواسعة على حساب غرف المرضى التي يتكدس فيها المواطنون وكأنهم في حال كارثة أو حرب. تلك الأموال تغري ضعاف النفوس وعديمي الضمير للسطو عليها إذا تغافلت عين الرقيب، فيذهب مليون هنا ومئة ألف هناك وهكذا حتى لا يبقى من المبلغ المرصود إلا مايكفي لبناء البوابة الخارجية، ناهيك عن عشرات المشاريع التي رصدت لها الميزانيات دون أن ترى النور أصلاً واسألوا هيئة مكافحة الفساد. كما أن الجهات الحكومية تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية من خلال ترسية العقود على العروض الأقل قيمة دون الالتفات إلى قدرة هذا المقاول على التنفيذ. وتبقى الطامة الكبرى في (الفساد) بالباطن المتمثل في قيام شركات المقاولات الكبرى بالتعاقد مع شركات أقل قدرة على تنفيذ تلك المشاريع فأصبح المقاولون يفرخ بعضهم بعضاً وصولا الى المقاول بباطن باطن الباطن الذي لا يملك في الأخير إلا أن يعلن استسلامه وعدم استطاعته الوفاء بالتزامات الشركة الأصلية. تابعنا رصد مشاريع بالمليارات نفذت في الأخير بملايين معدودة بسبب تقاسم الأرباح بين شركات المقاولات والمقربين منها في أجهزة الدولة والكل مستفيد من ذلك إلا المواطن الذي يهلل ويكبر عندما يسمع عن اعتماد مشاريع ضخمة أقل مايقال عن ميزانيتها بأنها فلكية وينصدم بمعنى الكلمة عندما يشاهد المشروع بعد اكتماله. عندما يبني أحدنا بيتاً فهو يحرص على أدق التفاصيل ويحسب مسار كل ريال من أين بدأ وإلى أين انتهى فلماذا لا نتفق كمسؤولين ومواطنين على تعمير هذا الوطن الذي نسكنه بنفس الحرص والأمانه؟ في الأخير.. لا نستطيع المطالبة بوقف المشاريع الحكومية حتى نتمكن من إيجاد آليات أكثر صرامة فهناك من هم بحاجة لها، ولكننا نطالب كمستفيدين بالتعاقد مع شركات عالمية متخصصة، ذات سمعة وخبرة عالية، ونوفر لها تسهيلات مدروسة ومنها استقدام عمالة ماهرة خلال فترة تنفيذ المشاريع المتفق عليها فقط، وتحديد نسبة معينة لعدد السعوديين الذين تلتزم تلك الشركات بتوظيفهم وتدريبهم. ومن المهم أيضا توفير آلية اليكترونية في الدفع والتنفيذ تخضع لمتابعة دقيقة من الجهات الحكومية والرقابية المعنية، ويسمح لوسائل الإعلام والمؤسسات الأهلية والمواطن قبل كل ذلك بالاطلاع عليها ومراقبتها حتى يعلم الجميع أين يذهب خير الوطن بكل شفافية ووضوح.