تحتفل الإمارات بعيدها الوطني الـ44 وهي واثقة من قدراتها وإمكاناتها، وسعيدة بنجمها الصاعد. لكن الإمارات كبقية دول الخليج العربي تبدو أيضًا قلقة تجاه ما يجري في المنطقة من عنف، واستقطاب طائفي وتمدد إيراني وعدم استقرار مزمن بلغ مستويات غير معهودة في التاريخ الشرق أوسطي المعاصر. هكذا هو المزاج العام في الإمارات في يوم ميلادها الوطني الـ44. إنه خليط من الثقة المشروعة من ناحية والقلق الشديد من ناحية أخرى. لم يسبق للإمارات، حكومة واقتصادًا ومجتمعًا وأفرادًا، أن كانت تشعر بهذا القدر من الثقة بحاضرها ومستقبلها القريب والبعيد كما تبدو مع نهاية 2015. لكن لم يسبق للإمارات أيضًا أن كانت قلقة كل القلق من الانتماء إلى منطقة جغرافية وسياسية خطرة وتزداد خطورة مع مطلع كل يوم جديد. حكاية الإمارات عام 2015 هي حكاية دولة تعيش واحدة من أفضل حالاتها استقرارًا وازدهارًا وتلاحمًا في حين أن المنطقة العربية تعيش واحدة من أسوأ حالاتها عنفًا وتفككًا وعدم استقرار. لذلك، فإن المهمة الكبرى التي تواجه الإمارات، وهي تحتفل بعيدها الوطني الـ44، التعامل مع معادلة في غاية الصعوبة للتوفيق بين الاستقرار الداخلي وعدم الاستقرار الإقليمي. لقد كانت هذه المهمة مطروحة أمام صانع القرار في الإمارات عبر الـ44 سنة الماضية، لكن الفجوة بين الاستقرار النسبي في الداخل وعدم الاستقرار المطلق في الخارج، أصبحت اليوم فاقعة، كما أصبح السؤال الأمني والسياسي أكثر إلحاحًا ووضوحًا، فكيف يمكن أن تشعر الإمارات بأمان والحرائق من حولها مشتعلة تقترب من حدودها، وكيف يمكن الاستمرار في الاستقرار والإبقاء على الازدهار الداخلي بعيدًا عن جنون التشدد، وفائض العنف في الجوار الجغرافي، والأهم من ذلك كيف يمكن ضمان عدم الانجرار والاستدراج لنزاعات ومتاهات المنطقة التي لم تعد تنتهي؟ لدى الإمارات، أسباب مشروعة ومقنعة كي تشعر بالثقة والارتياح والاطمئنان وحتى التفاؤل بالمستقبل، فسجلها التنموي ملموس ومدعوم بالشواهد على الأرض، وبالأرقام والبيانات الحيوية التي تشير إلى ازدهار اقتصادي، وتلاحم اجتماعي، وتقدم تقني متسارع، واستقرار سياسي وأمني. تشير المعطيات إلى أن الإمارات قد تكون في أفضل حالاتها التنموية. ولدى الإمارات بنية تحتية، من موانئ ومطارات وشبكة اتصالات ومواصلات، ومدن حرة وذكية، متطورة وحديثة تنافس أفضل البنى التحتية في أكثر الدول تقدمًا، ولديها بيئة اجتماعية منفتحة ومتسامحة تؤمن بالتعددية، وتمزج بين الحداثة والأصالة، وبسقف مرتفع من الحريات الفردية والاجتماعية. كما تمتاز الإمارات بتشريعاتها المرنة، وبمؤسسات ذات جودة تنافسية عالية محفزة للنمو. علاوة على ذلك، فإن اقتصاد الإمارات لم يعد ثاني اقتصاد في المنطقة العربية بناتج وطني يزيد على 400 مليار دولار، أي ما يوازي إجمالي الناتج القومي لتسع دول عربية، بينها مصر والأردن وتونس والجزائر، بل إن اقتصادها أكثر تنوعًا وحيوية واستعدادًا لمرحلة ما بعد النفط الذي تراجعت حصته إلى أقل من 30 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بحلول 2015. كل ذلك يدفع الإمارات كي تشعر بالثقة وهي تحتفل بيومها الوطني الـ44، فهي من الدول القليلة جداً في المنطقة التي تجلس بارتياح على مقعد متماسك بأربعة أرجل ثابتة ومتماسكة في حين أن مقعد البعض الآخر غير مريح وغير متماسك وغير مطمئن، والبعض الآخر لم يعد له مقعد يجلس عليه أصلا. لكن رغم الشعور المحق بالثقة، فالحقيقة المرة هي أن استقرار الإمارات هو استقرار نسبي، فهي لا تعيش في فراغ أمني وسياسي، بل هي جزء لا يتجرأ من جوار جغرافي مشتعل على مدار السنة. إن المنطقة التي تنتمي لها الإمارات تقف على كف عفريت وتعيش واحدة من أسوأ حالاتها. كانت المنطقة التي تنتمي إليها الإمارات خطرة في السابق وهي اليوم أكثر خطورة، في ظل تمدد إيراني غير مسبوق، وحروب إقليمية لا تنتهي، وتفكيك دول عربية عريقة إلى دويلات، وبروز ميليشيات طائفية لا ترحم، وانطلاق قوى ظلامية من عقالها، تعلن عداءها لقيم التسامح والانفتاح والاعتدال. فالعراق لم يعد منقسمًا إلى سنة وشيعة وكرد، بل إن البيت السني منقسم مع وضد «داعش»، والبيت الشيعي منقسم مع وضد إيران، والبيت الكردي منقسم بين طالباني وبارزاني، والحكومة المركزية الضعيفة في بغداد تزداد ضعفًا وارتماء في حضن إيران. وأما الوضع المأسوي في سوريا، فمستقبله مظلم وتعقد بأكثر مما كان معقدًا بعد الاقتحام الإيراني والتدخل الروسي المزدوج، مع استمرار العنف والعنف المضاد من قبل النظام والميليشيات المدعومة إيرانيًا من ناحية، وتنظيم داعش الإرهابي ومعه نحو 1500 جماعة مسلحة لا تود الخير لسوريا من ناحية أخرى. أما الحرب في اليمن، فأصبحت مفتوحة على كل الاحتمالات بما في ذلك احتمال أن تستمر بأكثر مما كان مخططًا لها؛ مما يعني تفاقم الوضع المعيشي والإنساني البائس أصلاً، وتزايد الأعباء على دول التحالف بقيادة السعودية التي تخوض معركة «الحزم» و«الأمل». أما إيران، فقد قررت جعل المنطقة العربية ساحة مفتوحة لطموحها السياسي، وتمددها الإقليمي، وعبثها الثوري ولا أمل يرتجى في أن تغير مسارها التوسعي بعد الاتفاق النووي. لدى الإمارات الحق كل الحق أن تشعر بالثقة في قدراتها وإمكاناتها ومواردها، ولديها أيضًا الحق كل الحق أن تشعر بالقلق الشديد تجاه المشهد الإقليمي غير الآمن والمليء بالوحوش الصغيرة والكبيرة المفترسة. لقد تعاملت الإمارات بحرص مع معادلة «الدولة الآمنة التي تعيش في منطقة غير آمنة» خلال العقود الأربعة الماضية منذ تأسيسها عام 1971، ولا يوجد أي سبب للشك والتشكيك في أنها لن تتمكن من التوفيق بحرص وحذر بين متطلبات الاستقرار الداخلي ومخاطر عدم الاستقرار الإقليمي خلال السنوات القادمة. فهي اليوم أكثر نضوجًا سياسيًا، واستعدادًا أمنيًا، وازدهارًا اقتصاديًا، وحضورًا إقليميًا ودوليًا، كي تقوم بدورها التاريخي كالدولة القدوة في المنطقة العربية. * أستاذ العلوم السياسية ورئيس المجلس العربي للعلوم الاجتماعية