إسقاط طائرة السوخوي الروسية، على الحدود السورية - التركية، وما تبعه من تجاذبات وتدهور في العلاقات الروسية - التركية، يطرح مجدداً السؤال عن أسباب انهماك روسيا عسكرياً، بالأزمة السورية. لماذا الآن بعد أربع سنوات على الأزمة؟ هل يعني ذلك أن تدخل إيران وحزب الله إلى جانب الجيش السوري، لم يعد كافياً؟ وهل هناك خشية روسية من تراجع إيران عن تدخلها العسكري في سوريا، بعد توصلها مع الولايات المتحدة لحل أزمة ملفها النووي؟ أم أنه تصعيد روسي للمواجهة مع أمريكا، المواجهة التي برزت بوضوح بعد أحداث القرم، قبل ما يزيد على العام؟ أم أنها استعادة لروح الحرب الباردة، التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، حتى سقوط الاتحاد السوفييتي في مطالع التسعينات من القرن المنصرم؟ ابتداء، ليس في التاريخ استنساخ، ولا عودة إلى الوراء. وروسيا الاتحادية، كمنهج سياسي واقتصادي واجتماعي، ليست الاتحاد السوفييتي. فقد اختارت السير على نهج الاقتصاد الحر، وأنهت حقبة حكم الحزب الواحد. لكن ذلك لا يعني أبدا، أنها ستسير على نفس المسطرة، التي يسير عليها الغرب. والقانون العام، بين الدول الكبرى، ليس التجانس بل التنافس. والذي يحكم العلاقات بين الدول باستمرار، هو توازنات القوة، وصراع الإرادات. وروسيا شأنها في ذلك شأن بقية الدول الكبرى. فهناك تنافس اقتصادي وسياسي وحتى عسكري، بين الدول الأوروبية، رغم وجود الاتحاد الأوروبي. وهناك تنافس أمريكي - أوروبي، رغم التحالف التاريخي القوي بين أمريكا الشمالية، ودول أوروبا الغربية، وأيضا رغم أن أوروبا استمرت في الاستفادة من حماية المظلة النووية الأمريكية، للجزء الغربي من القارة الأوروبية، منذ اندلاع الحرب الباردة، حتى يومنا هذا. وعلى هذا الأساس، فإن روسيا الاتحادية حين تتصارع مع الولايات المتحدة، على مناطق النفوذ فإنها لا تبتدع جديداً. كلما في الأمر، أنها ظلت كسيحة لأكثر من عقدين، وأنها منذ أكثر من عشر سنوات مرت بحالة تعافي، وأعادت بعث قوتها العسكرية والاقتصادية، وأن ذلك سينعكس بالتأكيد على حركتها السياسية، ومحاولة استعادة مناطق نفوذها، والتأكيد على مصالحها الحيوية. بالتأكيد لا يمكن للرئيس بوتين، أن يستعيد الممتلكات التي فقدها الاتحاد السوفييتي، لأسباب عديدة، أهمها أن الاتحاد السوفييتي نفسه لم يعد قائماً. والثانية، أن الدول التي استقلت عنه، قد اتخذت أشكالها القانونية والسياسية، وحمت نفسها بالارتباط بحلف الناتو، وباتت في معظمها جزءاً من الاتحاد الأوروبي. لكن هناك مناطق نفوذ روسية، تمثل البقية الباقية، لم تسقط بعد، أو على وشك السقوط. ومن ضمنها سوريا. وأهميتها أنها المكان الوحيد المتبقي لروسيا في حوض البحر الأبيض المتوسط. والتخلي عنها، يعنى التخلي عن الحضور العسكري الروسي، في مياه المتوسط. ولذلك فإن من المستحيل أن تتنازل روسيا عنها. الحركة الاحتجاجية السورية، التي اندلعت عام 2011، لو تمكنت من إنجاز أهدافها، فإنها كانت ستحدث تغيرات جوهرية في الخريطة السورية. ستتغير طبيعة النظام وتحالفاته. ومن ضمن هذه التغيرات، سيكون انتقال سوريا من التحالف مع روسيا إلى التحالف مع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن لروسيا أن تقبل بذلك على الإطلاق. إذاً فإن تدخل روسيا عسكرياً بسوريا، هو تمسك بنفوذها فيها، وليس غير ذلك. وقد وجدت قيادة بوتين في هذا الموقف، فسحة للإعلان عن بروزها السياسي والعسكري بقوة إلى المسرح الدولي. وبالنسبة لبوتين، فإن التخلي عن سوريا، يعني التراجع خطوتين كبيرتين إلى الوراء. الأولى هي التخلي عن منطقة نفوذ رئيسية لروسيا، والأخرى، الانكفاء والتراجع عن مشروع بعث القوة الروسية، وتأكيد حضورها على المستوى الدولي، ولم يكن بالمستطاع القبول بالتخلي عن أي من الخطوتين. لماذا إذا، لم تتدخل روسيا عسكرياً من قبل، خلال ما يربو على الأربع سنوات من عمر الأزمة؟ واقع الحال أن المساندة العسكرية كانت موجودة باستمرار، ولكن بصيغة التزويد بالسلاح والعتاد، وليس بالتدخل المباشر. ويمكن إرجاع التدخل العسكري السوري المباشر في سوريا لمجموعة من الأسباب. أول هذه الأسباب، أن المؤسسة العسكرية السورية، ظلت متماسكة وقوية، رغم انشقاق عدد من الضباط، لكن ذلك ظل محدوداً، وفي قدرة الجيش السوري تجاوزه. وقد استمرت الحكومة، لفترة غير قصيرة من عمر الأزمة، تحتفظ بمعظم الأراضي السورية. دخلت إيران وحزب الله على خط الأزمة، وكان ذلك سبباً كافياً لأن تطمئن روسيا على استمرارية وجود الدولة، المدعومة بقوة بشرية من خارجها، وأيضاً بمساعدات اقتصادية كبيرة من طهران. ومن جهة أخرى، لم تفصح الولايات المتحدة عن أي نية في التدخل العسكري بسوريا. لكن التطورات اللاحقة غيرت صورة المشهد بشكل جذري. فقد الجيش السوري، الكثير من الأراضي التي يسيطر عليها، حتى إن تقارير موثقة ذكرت أن قرابة 70% من الأراضي السورية باتت خارج سيطرته. بل إن العاصمة السورية ذاتها، أمست هدفاً لقذائف المعارضة، وصار تهديد الطريق الموصل إلى مطار دمشق من داخلها، أمراً واقعاً. ورغم أن روسيا الاتحادية، دخلت في مواجهات مع الغرب، بسبب أزمة القرم، وتعرضت لعقوبات اقتصادية حادة، فإن عينها ظلت مثبتة على سوريا. وحين بدأت تشهد تحولاً في سياسات أمريكا وأوروبا باتجاه التدخل العسكري المباشر فيها، كشرت إدارة بوتين عن أنيابها. وأعلنت صراحة بأنها ستدعم النظام السوري عسكرياً، في حالة مواجهته لتدخل عسكري مباشر، من قبل الأمريكيين أو الأوروبيين. ووضعت حداً، لتصرفات تركيا أردوغان، التي كانت تعتزم إقامة منطقة عازلة على حدودها الجنوبية مع سوريا، في داخل الأراضي السورية. هل أجبنا على السؤال الذي تصدر هذا الحديث؟ الجواب بكلا فهناك أسباب وجيهة أخرى، دفعت القيادة الروسية للتدخل عسكرياً في سوريا. yousifmakki2010@gmail.com