لو نظم استفتاء حرّ في الدول العربية حول دور الأطراف الدولية في المساعي الرامية إلى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، لكان من الأرجح أن تحذر نتائج الاستفتاء العرب من إعطاء دول الغرب بصورة عامة، والولايات المتحدة دوراً مؤثراً في هذه المساعي، ولكان من الأرجح أن تطالب نتائج الاستفتاء بعدم المراهنة على الزيارات التي يقوم بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري وعلى الوعود التي يخصّون بها العرب والفلسطينيين . ولا بد من الاعتراف بأن الذين يطلقون مثل هذه التحذيرات هم عادة الأكثر دقة في الإصغاء إلى أقوال الزعماء الأمريكيين وفي الاطلاع على البيانات الرسمية الأمريكية، والأكثر جدية في قراءة التقارير الرسمية الصادرة عن المراجع المختصة في واشنطن والمعنية بالصراع العربي الإسرائيلي . بالمقارنة، فإن العرب الذين ينتقدون هذه التحذيرات ويطالبون بالإمساك عنها، هم عادة من الذين يجدون مشقة في قراءة التصريحات والمواقف الأمريكية الرسمية بدقة وتمعن . فكل مقاربة أمريكية للصراع العربي الإسرائيلي تشمل زيارات واتصالات يقوم بها الزعماء الأمريكيون مع القادة الفلسطينيين مثل الاتصالات التي سوف يجريها الرئيس أوباما خلال الشهر المقبل، تقوم على خلفية الأهداف الأربعة الرئيسة التالية: * أولاً، ضمان التفوق الإسرائيلي العسكري والاقتصادي والسياسي على الدول العربية، متفرقة أو مجتمعة . هذا الدعم وصل في عهد باراك أوباما إلى مستوى غير مسبوق، كما أكد إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي . بفضل هذا الدعم أمكن بناء القبة الحديدية وتمديدها إلى جنوب إسرائيل وسمح لإسرائيل بالاطلاع على أدق التقنيات العسكرية ومنها تلك المتعلقة بإنتاج آخر الطائرات المقاتلة الأمريكية . * ثانياً، ضمان تدفق النفط العربي إلى الولايات المتحدة بأسعار مناسبة كما يصفها الأمريكيون، والسعي إلى حرمان الدول الأخرى المنافسة من الحصول على حصة من هذا النفط . في إطار هذا المسعى تلجأ واشنطن إلى دعم الحركات الانفصالية والحروب الإقليمية، كما فعلت في السودان عندما أسهمت في فصل جنوبه عن بقية أجزائه بغرض عرقلة وصول الصين إلى النفط السوداني . ويجدر بالذكر أن الصين أمسكت عن الرد على هذه الاستراتيجية بمثلها، فكما يلاحظ هونجي لاي في مقال بعنوان دبلوماسية النفط الصينية: هل تهدد الأمن العالمي، حرصت الصين على مراعاة المصالح النفطية الأمريكية في الخليج وفي إيران والعراق، وعلى اتباع ما يشبه التنسيق الثنائي من جهة واحدة مع الولايات المتحدة . * ثالثاً، الإمساك بمفاصل المنطقة العربية الجيو-استراتيجية الرئيسة وبالممرات البحرية والجوية والبرية المهمة، في إطار الإعداد لتجديد الحرب الباردة . هذه الحرب ستكون مرة أخرى كما كانت خلال مطلع الخمسينات ضد المحور الصيني الروسي الآخذ بالنمو والذي تظهر ملامحه الدولية عبر المواقف المشتركة التي يتخذها الطرفان بصورة ثنائية في القضايا العربية وعبر منظمة شانغهاي في قضايا المحيط الهادئ والقارة الآسيوية . * رابعاً، ضمان استثمار الفوائض المالية العربية في أسواق الغرب ومصارفه، خاصة في الولايات المتحدة . وتقدر هذه الفوائض حالياً بما يزيد على التريليون دولار ما يضفي عليها أهمية استراتيجية، ويجعل للتحكم فيها أهمية كبرى . في كل شأن من هذه الشؤون الأربعة، تعدّ الإدارات الأمريكية إسرائيل حليفاً استراتيجياً، فالعلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي علاقات ذات طابع استثنائي ومميز لا يضاهيه إلا العلاقات الأمريكية -الكندية . وبفضل الدعم غير المحدود الذي تقدمه واشنطن إلى إسرائيل أصبحت الأخيرة عضواً غير معلن في الناتو وفي الاتحاد الأوروبي . وفي إطار هذه العلاقة تقدم الإدارة الأمريكية إلى إسرائيل ما تحتاج إليه من دعم، ليس للدفاع عن نفسها فحسب، وإنما لممارسة العدوان والتوسع في الأراضي العربية . فإبّان الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان لبّت إدارة جورج بوش طلبات إسرائيل من دون استثناء لمواصلة عدوانها . وكمكمّل لهذه العلاقة، فإن واشنطن تعمل باستمرار، على حرمان الدول العربية من الميزات الاستراتيجية التي تمكنها من الضغط على إسرائيل ومن لجم عدوانيتها . لا يغيب عن العرب المعنيين بالعلاقات الدولية وبعلاقات بلادهم مع الولايات المتحدة أنه رغم التزام الإدارات الأمريكية المتعاقبة بسياسات عليا واحدة، فإنها تختلف على العديد من القضايا الفرعية في السياسة الخارجية . فلا ريب في أن هناك فرقاً بين موقف إدارة وودرو ويلسون في العشرينات التي تبنت تقرير كينغ كرين بما فيه من دعم لقيام دولة عربية مستقلة بعد الحرب العالمية الأولى، وبين هاري ترومان الذي كان أول من اعترف بإسرائيل ليس كدولة فحسب، وإنما كتعبير عن المبادئ العظيمة للحضارة الأمريكية . وهناك فرق بين موقف إدارة جون كنيدي خلال الستينات من العلاقة مع العرب، وبين موقف ادارة ليندون جونسون تجاه العلاقات العربية - الأمريكية . فكنيدي سعى إلى تحسين العلاقات مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وإلى التفاهم مع تيار القومية العربية الذي كان يقوده، من دون التخلي عن المبادئ العامة للسياسة الأمريكية . أما جونسون فهو الذي بدأ رحلة ترسيخ العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ونقل إسرائيل إلى مرتبة الحليف الحميم للولايات المتحدة كما يلاحظ ايتمارا رابينوفيتش، سفير اسرائيل السابق في واشنطن . وهناك فرق ولا شك، بين إدارة جورج بوش الثاني الذي أمر بغزو العراق ومن ثم بتدميره، وبين إدارة باراك أوباما التي أمرت بانسحاب الجيش الأمريكي من العراق . فضلاً عن ذلك، لا يغيب عن العرب المعنيين بالعلاقات الأمريكية العربية أن هناك رأياً عاماً أمريكياً نامياً، ينتقد إسرائيل وينتقد السياسة الأمريكية المحابية لإسرائيل . ومع نمو هذه الظاهرة بات التعرض للسياسة الإسرائيلية ولسياسة واشنطن تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي أقل تكلفة مما كان عليه في السابق، وأصبح بإمكان أكاديميين مثل جون مارشهايمر وستيفان والت أن يسلطا الأنظار على قوة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وعلى التباعد بين حوافز هذا اللوبي والمصالح القومية الأمريكية من دون أن يتمكن هذا اللوبي من معاقبتهما على هذا التقييم . رغم هذين الاعتبارين فإنه لا يزال من غير الواقعي أن يأمل المرء أن تقترح الإدارة الأمريكية في المستقبل القريب حلاً يضمن الحقوق الوطنية الفلسطينية ويراعي مبادئ الشرعية الدولية وحقوق الإنسان . إن المدخل الصحيح لتلبية هذه الحقوق، يبدأ بتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تستند إلى أسس ديمقراطية ترعى التعددية والوحدة معاً . والمدخل الصحيح لتلبية المطالب الوطنية الفلسطينية يمر بالنهوض بالأوضاع العربية . هناك كثيرون في فلسطين والمنطقة العربية والمجتمع الدولي يدعون إلى تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية حتى لو كانت المنطقة العربية في أسوأ أحوالها . إن لعبة تدوير الزوايا هذه تقود الفلسطينيين على طريق الخراب ومن هزيمة إلى هزيمة جديدة. * نقلا عن الخليج الإماراتية ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.