الصراعات القائمة من حولنا، تستعصي على فهم المواطن العربي البسيط. فتراه يلتجئُ إلى السياسيين. فيُحلِّلون له المواقف، والمكاسب والخسائر؛ فيتطلَّع إلى الفضاء الفسيح ويحاول الفهم. يستنجد بالإستراتيجيين. فيُحلِّلون مواقع القوة والضعف، وأماكن الاشتعال، ومواطن الانطفاء والخمود، ثم مواطن الهدنة والتفاوض. ولكن هؤلاء يشابهون السياسيين إلى حدٍ كبير. فكل واحد منهم يشرح ويُفسِّر الجانب الذي هو أقرب إليه ويرغب في انتصاره. بيد أن المواطن العربي البسيط -بحاله تلك- لا انتصار له. فكيف يفهم؟ يقولون له إن هناك خرائط معتمدة للتقسيم والتوزيع. وهناك اتفاقات وتحالفات، وتوزيعًا للأدوار بين الدول الكبرى. فتخيف المواطن العربي البسيط هذه الإستراتيجيات والسياسات والخرائط والتفسيرات والنفوذ؛ لأنها كلها غير مفهومة عنده، وتحتاج إلى عقل يستطيع تفسير المستقبل من معطيات الحاضر. هذا الشيء كثير عليه، وفوق طاقته الذهنية؛ لأنه يعيش الحاضر بكل متاعبه اليومية وصراعاته، ويجاهد من أجل لقمة العيش «والستر». هذه هي مفاهيمه. وهذه هي إستراتيجياته. ليس عنده ذلك الترف الذي يمنحه فرصة الاستشراف والنظر إلى تلك الغيبيات البعيدة عنه، أو تلك القريبة منه. فيما عدا حاضره الذي يسيطر على معاشه، لا يسعفه التفكير خارج إطاره إلا في مراتع الماضي. لذا كانت «مناحة» الأطلال «المعلّقاتية»، والذاكرات «الحكواتية»، وأساطير الفرسان السابقين التي هي لذّة استراحته، ووقود انتصاره الوهمي وعنترياته. بيد أن هذه العوامل التراثية العاطفية -للأسف- هي من مُسبِّبات عدم الفهم عنده، وعدم معرفة الواقع المعاش وكيفية التعامل معه. منذ قديم الحضارات التي سعت دائمًا إلى إرساء الحرية والعدل والأمن لمواطنيها، انبثق من أسسها التعليم، الذي قادها إلى العلم. فقادها العلم إلى الفهم. فقادها الفهم إلى التحليل. فقادها التحليل إلى الرؤية والاستشراف. فمن أجل هذا السُلّم المرتقي يُقال: عندما تنتقل رؤية الفرد من النظر إلى حيث موضع قدميه إلى النظر إلى رحابة الأفق الشاسع؛ فعندئذ يولد المواطن الذي يحدث النقلة النوعية في حياته وفي رفعة وطنه. m.mashat@gmail.com