الصلاة على الحاضر! لم يفق بعد من صدمته، فالوعي مفقود، وخطو قدميه محدود، وإحساسه غائب عن المكان؛ يقف في انتظار إقامة الصلاة، وهو غير مدرك لوقتها، أو تفاصيل أدائها؛ يعلم أنه جاء هنا لواجب لم يقمه من قبل، ويعلم أن الآخرين يعلمون ما لا يعلمه، ويعلم أنه لجهله يقلدهم في كل شيء؛ سيطر الخشوع على الجميع بعد تكبير الإمام، فدخل معهم بجسده، وحركاته الفارغة من الروح، ثم هز صدمته الصوت القادم من مكبراته: الصلاة على الأموات! فكان سؤاله لمن يقف بجواره: وماذا كنا نفعل قبل قليل؟ رصيف! لا مأوى له إلا هو، فاختار تقاطعاَ غير صاخب، وأمام حانوت ذي زاوية متنوع التكوين، متجدد الوجوه الراجلة إليه، وضع كرسيا كلاسيكي الألوان والخشب المنحوت، وبجواره بقايا خزانة ملابس دون أبواب، فاستقر بينهما كقطعة مكملة، لولا أنه يزعج المارة بأطواره النفسية المتجددة حينما تنتابه بين وقت وآخر. الأب تفرق الجمع، فذهب كل في سبيل، وحمل معه ما استطاع جمعه، لأفئدة ران عليها الزمن، ومشاعر أحاط الجليد إطارها، حيث لا يمكن اجتماعهم مرة أخرى، والعزاء لا يجمع الأبناء إلا مرة واحدة. دلس خرج متلثماً بغترته الحمراء، وخُطى رجليه ترسم حزناً على أثره، تبعه بعضهم، ونادى به الآخرون، لم يستطع إجابتهم أو الالتفات إليهم. في الصباح استلم والدها مظروفاً مغلقاً، بعد فضه وجدت ورقة طلاقها، وحين سأله والدها عن السبب، أجابه: لم أجد الفتاة التي كنت أحلم بها، ولم أر الفتاة التي رأيتها قبل ذلك، أدخلتموني على من هي تكبرني بمقدار عمري! مذاق منذ الليلة الأولى فرض عليها قراره، وخيّرها بينه وبين قرار آخر، قبلت بالأول وارتعدت من الآخر، انصرمت الأيام على وجل، وشطحت المسافات بينهما. فلليل خفايا لا يبصرها إلا في النهار، وللأيام تجارب تصدر منها القرار، وقد تيقن من قراره الأول بعد ملله من فراشها، وضجره من معاشرتها، ويأسه من حياة أسعد، فكان رفض الحمل قراره الأول، ثم ألحقه بقراره الثاني لكي يعيش كل واحد بطريقته! طعم التراب ضاقت الأرض بما رحبت، فبثت السلطات خطة جديدة، سُتنهي المأساة وتقضي على الساقط والمتسلل والمختفي، في الصباح الباكر انتشرت أجهزة الأمن للبحث عنهم، مضى النهار يطويها طيا، وعند المساء أعلن قائد الحملة عن خلو المدينة منهم، حيث تم تفتيشها بدقة ولم يُعثر على أثر لهم، وكانت المدينة خالية إلا من رجال الأمن! انقطاع ما من مولود إلا ويولد سعيداً، وما من فتى إلا ويُقبل على أقرانه، وما من شاب إلا وله أحلام كبعد الأفق! لم تكن الشمس قريبة منه ولم تكن صافية له، غبشها متجدد، ونورها مظلل، ونهارها لا ينتهي، فاستمرأ الحياة بطريقته، كانوا كشمسه التي يراها و ُيريد، لم يبق حوله أحداً منهم، تذمروا منه بعد إدباره عنهم، وتنامي عشقه لذاته، وقد تورمت عظمته فاستوطنه المرض وتبددت الأحلام كلها! تباين تمتد يده إلى دفائنها الدافئة، يده الأخرى ُتداعب شعرها العاطر، تستيقظ فتنتها، يهيج شذاها، يتقاطر عرقها، تتحسس بلسانها كل جاف لتلعقه، التوت منتفضة بالتفاتها إليه، كان يئن وأنفاسه تحاول اللحاق بخفقه المضطرب، تقترب منه أكثر، يصد عنها متذكراً أباها بعد رفقة طويلة دامت خمسين عاما! انتظار صمت يطرز المكان بخيوطه، وشاشة بلازما تسيطر بحجمها الكبير على الجدار المقابل، واضطراب حركة الحضور مع أنفسهم تجذبه عن متابعة الشاشة، فيعيد ترتيب نظراته للعرض مع وجوههم، كي يستبين تصنيف الأسماء والتفاصيل التي يقرأها، فتعيد الشاشة له العرض من جديد، وتشرح له.. الانفصام، الوسواس، القلق، الاكتئاب، العدوانية، التوحد، الزهايمر؛ ولعينيه قراءة أخرى!