لا يمر بنا شهر إلا وهناك حوادث إرهابية تقع في مكان ما من العالم، بعضها أصبح أشبه بالخبز اليومي ينتظره بعض الشعوب كما لو كان ساعي بريد يحمل معه طروداً من أكفان وأحزان يوزعها على الناس وفق مقادير الموت، وبأشكال فنية سريالية يستحيل أن يبدع سلفادور دالي مثلها، إنها لوحات بشعة تُنقَش على جروح الأبرياء، أدواتها براميل متفجرة أو عصابات قاتلة أو قصف عشوائي يبيد قرية كاملة لأجل البحث عن حذاء إرهابي قيل إنه مر من هنا. واسألوا إن أردتم أولئك اللاجئين الهاربين، ما الذي دفعكم لركوب البحر ومواجهة الموج والموت بأطفالكم ومرضاكم المقعدين، أو اسألوا من يحفر الأنفاق ليلاً ونهاراً ما الذي يدفعكم للعيش كالجرذان في أقنية الموت البطيء، أو أسألوا الواقفين أمام مراكز الشرطة وأبواب السجون ليستخبروا عن حال أولادهم أو أزواجهم الذين أُخذوا ليلاً وهم نائمون تحت دعاوى الإجراءات الأمنية في ظاهرها وفي باطنها الانتقام السياسي، فانقطعت أخبارهم أشهراً بل أعواماً دون خبر أو جواب!. عالمنا العربي لوحة مأسوية كل يوم تضاف إليها شخوص وأشكال جديدة، تزيدها قتامةً باهرة!، بيد أن أحداث باريس مساء الجمعة الثالث عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2015م كانت ذات وقع مختلف، فالعالم يصحو عندما تصرخ باريس، ويبكي عندما تتألم، إنها من ضمن أهم مدن العالم وأكثرها مركزية في الثقافة والسياسة والاقتصاد، لا أحد يصمّ أذنيه عن سماع ما وقع فيها من قتل وإرهاب، وربما لن يستطيع حتى لو أراد الصمم أو الإغماض!، فهذه باريس وليست الموصل أو الفلوجة أو ديار بكر أو حلب أو إدلب أو غزة أو تعز أو بنغازي أو مقديشو، يكفي ما سبق من مدن، فليس المقام إلا للتذكير لمن لم يفقد بعد ذاكرته التاريخية والجغرافية. أذكر باريس بألمٍ حقيقي لأنها تعرضت لفعل إرهابي حقيقي أو مزيف، لا يهم، المهم الذي يدعو للأسى والحزن هو وقوع أبرياء لا تعنيهم السياسة ولا أحداث العالم ولا ما يحصل في وطننا العربي، ضحايا في سلسلةٍ من الضربات والتفجيرات القاتلة العمياء الحمقاء التي سالت لأجل تلك الحماقات دماء بريئة وبلا ذنب. أمام هذا المشهد، كانت هناك مشاهد أخرى تنظر لما حصل في باريس بابتسامة لا تزم فيها الشفاه إلا لأجل رشفات من القهوة أو الشاي، ثم تعود الابتسامة والعينان قد تسمرتا أمام شاشات الأخبار، وهنا سأهتم بإشكالية واحدة لاحظتها في كل حدث إرهابي يقع في الغرب، وهي إشكالية استدعاء التاريخ الماضي بثقله وتعقيداته ليطغى على تحليل الواقع المعاصر، وأمام هذه الفكرة أضع بعض الآراء من خلال النقاط التالية: أولاً: عادةً ما يقفز على ساحة التحليلات السياسية والفكرية، تلمّس الشبيه والنظير التاريخي القديم، وإسقاطه مباشرة على واقعة إرهابية أو أزمة معاصرة، وعلى هيئة القطع واللصق الحاسوبي، وفي أحداث باريس الماضية لا أحصي عدد الرسائل والمقاطع التي تم تداولها، تذكرنا بما فعل الفرنسيون لإخواننا بالجزائر أو في مستعمراتهم المنكوبة أو ممارساتهم البشعة في تاريخهم النضالي والثوري، وهذا حق ولا أظن الفرنسيين ينفون عنهم هذا التاريخ، ولكن ما قيمة استدعائه اليوم بعد مرور قرون أو عقود من الزمن، أليس من أجل البحث عن وسائل للتبرير والتذكير بالانتقام الذي طال انتظاره؟ ولا أدري ممن ننتقم أو من ندين في هذا الوقت؟! وهل يمكن أن نعاقب الأحفاد بما فعل الأجداد؟ وهل يخلو تاريخ أي أمة من فعائل شنيعة مورست في فترات استبداد قام بها ظالمون، غزواً أو قتلاً؟ كل تلك التساؤلات الماضية وغيرها تجعل الإسقاط التاريخي نوعاً من التسطيح، وممارسة الظلم بالظلم، ومقابلة الأزمة بالتحريض عليها لخلق أزمات أخرى لا تنتهي، بينما الواقعة الإرهابية بكل بشاعتها مُرِّرت ذهنياً أنها من الدفاع المشروع والعقوبة المؤجلة التي يستحقها المجرم!!، وبالتالي سنبقى في حلقة مفرغة من تبادل الاتهامات التاريخية، خصوصاً إذا قام المتطرف والناقم الفرنسي بتوزيع الاتهام للمسلمين قبل معرفة المتسبب بالجريمة، لأنه تاريخياً أو في بقعة جغرافية ما، مارس قلة من أتباع الإسلام هذا الجنوح الإرهابي، وهنا تعلو في هذا المشهد الأليم أخلاقيات المواجهة والاستعداد لتدمير كل مكتسب بُني في عقود؛ لأجل تفريغ شحنة الانتقام التي امتلأت بها أنفس وأحزاب متطرفة زاد من غلوائها دوي التفجيرات وصيحات الاستغاثات. ثانياً: استدعاء تاريخ الصراعات الغابرة في المصائب الكبرى نوع من اللعب بالنار، كما فعل جورج بوش الابن في تذكيره بالحروب الصليبية بعد أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001، وكما يفعل الإسرائيليون في جلد الذات الأوروبي في شكل يومي تذكيراً بفظاعات اضطهادهم لليهود، ومثلها ما يصنع الشيعة في كل عاشوراء من استدعاء جيش يزيد وهو يقتل الإمام الحسين، والتذكير بثارات الانتقام من شخوص ودول قد طواها التاريخ بلا رجعة، بينما المحرضون السياسيون بقصد أو بغير قصد يحاولون أن يركّبوا صورة الأمس على مشاهد اليوم، ويذكوا فتيل الفتن بنار الانتقام، للحصول على أكبر قدر من مغانم الحرب المقدسة. هذه الصفحات التاريخية الماضية من المعارك والحروب؛ قد طويت بجهد جهيد مارسه علماء وحكام عقلاء وأخذ زمناً طويلاً حتى نُسيت تلك الوقائع الخاسرة بلا ربح، ثم يأتي اليوم واعظٌ أو إعلاميٌ أو سياسيٌ ليجعلها ساحة المواجهة بين الحاضر والحاضر باستعمال أسلحة التاريخ والماضي الأليم؟!. ثالثاً: تلتبس الأولويات لدى مستدعي التاريخ في أحداث اليوم، فهو أمام مشهد إجرامي حصل لقوم أبرياء كما وقع في باريس الأيام الماضية، ويريد أن يذكرنا بأن الأمة الفرنسية التي تبكون على مصابها قد فعلت الكثير من المظالم التاريخية، وهو هنا أمام موقف أولوي كان يجب أن يقدّمه قبل أي تحليل أو استدعاء ماضوي، وهو تجريم القتل للأبرياء وانتهاك حرمة الأمن والسلم بين المجتمعات، وهذه القيمة تعتبر قيمة كبرى في الإسلام بغض النظر عن الجنس واللون والمعتقد، وسواء حصلت في باريس أو مالي أو نيجيريا التي تزامن فيها عدد من الأحداث الإرهابية في التوقيت ذاته، ولست بصدد سرد النصوص الشرعية التي تحرم الاعتداء وتجرّم أصحابه، لأنها واضحة بجلاء لا يقبل التأويل، ومنها على سبيل المثال، ولعله أصرح ما جاء في هذا المقام وهو قوله تعالى في تجريم قتل الأبرياء: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة 32) وقوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا» (المائدة 2) وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» (المائدة 8). وقوله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»(الممتحنة 8). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :»من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة» (رواه البخاري، رقمه 3166) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» (رواه البخاري، رقمه 6862)، فهذه النصوص وغيرها كانت هي الأولى في البيان بدلاً من تغميض العين عنها والالتجاء إلى مظلوميتنا واستدعاء قصص ظلم الآخر وبغيه. رابعاً: استدعاء التاريخ الماضي الذي ذهبت كل معطياته، واختلفت منطلقاته، وتباينت تحالفاته، كيف أسقط عليه نموذجاً لا يتطابق معه إلا في جغرافيا المكان؟. وهنا لا أفترض أن يكون المسلم دائماً عقلانياً وموضوعياً في تناول الأزمات التي حوله، والتي غالباً ما يكون فيها ضحية، بينما الآخر يمارس استدعاءاته للتاريخ وبصور مزيفة عن الحقيقة، ويلقي التهم الجزاف حول وجود كامل لأقلية مليونية، جاءت لأوروبا خدماً وعمالاً للبناء والنهضة، وليس كقدوم الأوروبي عندما جاء أرضهم قاتلاً وغاصباً وسفّاكاً للدماء، لا شك في أن الصورتين مختلفتان، ومن استدعى الصورة الأولى للمسلم حضرت معها الصورة الثانية للمسيحي الأوروبي، وبذلك سنبقى في توتر، يجعل هذا الوضع قابلاً للانفجار عندما تتوافر فتائل التحريض الرسمي والإعلامي، لذلك نحتاج إلى إقامة علاقات أساسها الاحترام المتبادل والمتكافئ، وإن نوقف تهم الماضي، ونتعامل مع حاجيات المستقبل، فاليوم لم نعد كالسابق جيراناً متباعدين؛ بل أصبحنا في بيت واحد متقاربين شئنا أم أبينا، لأن حركة الاتصال والتقارب، كما أنها خدمت الإنسان وسهّلت مصالحه، فهي كذلك أوجدت حالةً حساسةً جداً لأي توتر يحدث في هذا الخضم المتشابك من البشر والمصالح، فمن يريد إيذاء الآخر فسوف يؤذي كل من حوله، وسيرجع الشر على بيته، كون المجتمعات المعاصرة قد تزاحمت اليوم اضطراراً في غرفة الشبكة العالمية، فمنها يطعمون ويتنفسون ويتنقلون، وهذا ما يجعل العبث بالأمن والسلام أخطر من كل عصر مضى. وأخيراً... نحن في صورة تخيلية أخرى أقرب ما نكون أيضاً في سفينة جامعة، وهناك من يريد أن يخرق فيها بحماقة أو بمكر، ليدمر بأفكاره السامة سفينة النجاة، وما لم نأخذ على أيدي مرتزقة الإرهاب وعرابي صدام الحضارات، ونمنعهم بقوة الحق ومنطق السلم، وإلا فالمآل سيكون أكثر قتامة وشناعة ولن يمر على التاريخ مثله!.