الكاتب اللبناني جبور الدويهي، صاحب طعم خاصة في كل رواية يصدرها، فلا تخلو أعماله من تشويق في ثنايا النص الذي يبتدعه، الحديث معه يحمل التشويق نفسه، خصوصاً في إصداره الأخير حي الأميركان وما سبقه من روايات يكشف عنها في حوار حول تجربته الإبداعية. *رواياتك وكتاباتك الأدبية تتمحور حول مواضيع مختلفة، سياسية واجتماعية وثقافية وتوثيقية. لماذا كل هذا التنوع في نصك الروائي؟ من الطبيعي أن تكون الكتابة الروائية ممهورة بلغة وأسلوب وتفسيرات تنطلق من رؤية ونظرة وإحساس، لتحفر في الوعي، في شكل نص سردي. لذلك كتبت في أعمالي الروائية حياتنا وتاريخنا المعاصر، وببساطة لأنني من جهة أخرى لا أستطيع كتابة ما لا أعرف، إنني أكتب الواقع، فكان لا بد لي من تصوير المواضيع والفصول التي تمتد على مساحة زمنية عشتها وتدور أحداثها منذ أكثر من نصف قرن غلبت عليها النزاعات والنفوذ والانتماءات والعصبيات والهويات الصغيرة، وفي روايتي مطر حزيران عبّرت عن هذه المفردات الكثيرة، فالتوثيق يمنح النص الروائي الكثير من الوعي، ويمدّه بعناصر كثيرة، كالشخوص والأمكنة وبقية المجريات. * كيف تختار موضوع روايتك؟ بعض رواياتي لم أختر موضوعها بنفسي، هي وليدة نصائح وطروحات الأصدقاء، مثل رواية مطر حزيران، وهناك روايات أخرى كتبتها بدافع آخر، وهو الغوص عميقاً في مجريات الأحداث التي تراودني وتشدني إليها. * هل يمكن للكاتب أن يغيّر الواقع من خلال ما يكتبه في خياله ووعيه الباطني؟ لا شك في أن الكاتب يقوم بعمل ابتكاري في كتاباته، يتخيّل ويستحضر ويبني ويعمّر ويصنع ويفعل.. كل هذا من شأنه توليد فكرة الحياة من جديد وبشكل خاص، وتبقى الكتابة خاصة جداً لدى كل كاتب، ولكن العبرة تبقى في محتوى النص وما يسعى اليه، في كتاباتي تحضر تفاصيل كثيرة تحاول رسم واقع جديد. * وإلى أي مدى تصور روايتك حي الأميركان الواقع الراهن؟ حاولت أن أصور البيئة التي نشأ فيها إرهابيون يستعدون للقتال في أمكنة تحدد لهم، أنا بداية غير متورط في هذا النوع من النزاع، وأعتقد أنه محكوم بالعقم والدموية، ويمكن بالتالي إظهار معانيه وأبعاده بسهولة لأن التاريخ حافل بهذا النوع من الناس. لقد استعدت أمكنة وجغرافيا وأشخاصاً وطقوساً وعادات ورسمت لهذا كله مداخل ومخارج، من خلال لغة ومفردات وأفكار روائية. * ولماذا تركيزك الواضح على المكان كأنه بطل الرواية الأساسي؟ كما أسلفت، لقد رصدت المكان، بما يتضمنه من فقر وعوامل تؤدي إلى التهميش، هي محاولة لاستعادة جغرافيا مهملة، تتمثل في الحيّ الفقير المكتظ المتراكمة بيوته فوق بعضها بعضاً على ضفة النهر مقابل القلعة القديمة، والذي لا يمكن دخوله إلا عن طريق سلالم ملتوية، هذه التفاصيل هي ما جذبتني إلى كتابة هذه الرواية التي بدأتها على كل حال بجولة في هذا الحي، وشدني إليه أيضاً التناقض بين الطبقات المختلفة، فهناك ثنائية مكانية صارخة، وأغراني كل هذا، فوجدتني أمام وضع اجتماعي يلامس، وعن كثب، مصائر متعارضة يمكن أن تتلاقى عند حدود إنسانيتها. *يبدو المكان في نصك الروائي، كأنه راسخ في وعيك، لا يتزحزح. لم أكتب إلا عن صور قائمة في ذاتي أولاً، ثم في مكانها الأصل، هذا أمر طبيعي في الإبداع، فالمدينة الحاضرة في روايتي التي وصفتها ورسمتها بكلماتي هي مدينتي، حصّلت دروسي فيها، ولاحقاً عدت وعلّمت في مدارسها وجامعتها. واليوم تراني شبه مقيم فيها، وتحلو لي الكتابة في مقاهيها، كما أنني التقي فيها بالأصدقاء وأجوب أسواقها التي تحمل اسم أم الفقير. كذلك أيضاً قمت بزيارات متكررة إلى أحيائها الفقيرة واستمعت إلى ناسها وتواصلت مع شبان أغراهم نداء خادع بالقتال في سبيل الله. المكان هو الصلة الجميلة بالحاضر والماضي، أليف بالنسبة إليّ بحاضره وماضيه الممتد إلى عشرات السنين. إلى نصف قرن إلى الوراء، نعم المكان في أي رواية هو البطل الأول الذي يرفع راية الذاكرة ويحلق بها عالياً، لنراه أكثر. *كيف تنظر إلى المشهد الروائي العربي الراهن؟ الصورة مبشرة والأعمال الروائية في حالة مزدهرة، تتميز بالكثرة والجودة، الرواية مزدهرة منذ عقود، وتبرز اليوم أسماء كثيرة قادرة وقديرة في بناء العمل الروائي الناجح والجديد.