عندما وصلني فيديو حارس المدرسة الذي التقطه مشكورا أحد أولياء الأمور وروج له عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأحدث صدى واسعا في الأوساط كافة، لدرجة أن وزارة التعليم أعلنت عزمها تكريم الحارس في حفل بهيج، لحظتها لم أكن أرصد مثل البقية المهام التي يقدمها الحارس، ولم أحرص على قراءة اسم المدينة أو المدرسة أو الشارع، بقدر اهتمامي الكبير برؤية وجهه، كنت أنتظر بلهفة اللحظة التي يلتفت فيها إلى كاميرا الجوال متمنيا أن يكون (العم عبدالله) حارس المدرسة التي تدرس فيها ابنتاي الصغيرتان (ميار ومايا) والذي لطالما أسرني تفانيه وإخلاصه في عمله على الرغم من سنه المتقدمة وظروفه الصعبة. حين أوصل ابنتي صباحا، أجد (العم عبدالله) يحمل مقشته ويكنس الشارع الذي أمام المدرسة، وسرعان ما يفتح باب السيارة مهللا ومرحبا ثم يأخذ بيد الصغيرتين ويسلمهما للدادة، وإذا صادف ذلك اليوم موعد دفع الرسوم الدراسية، يتحول (العم عبدالله) إلى محاسب مالي دقيق، حيث يطلب مني عد الدراهم قبل دفعها له، ثم يطالبني بالانتظار إلى أن تحضر المراسلة سند القبض مرددا بكل عفوية (هذه أمانة.. أمانة.. عجزت عن حملها السماوات والأرض)، أما إذا حان وقت الصرفة، أجد ( العم عبدالله ) يجلس على عتبة غرفته، قبل أن يلتم من حوله أولياء الأمور فيعلن حالة الاستنفار ويمسك بميكرفونه مناديا على الطالبات بطريقته (ميار الزهراني.. يا ميار). كم حدثتني نفسي بالكتابة عن (العم عبدالله) لأبرز جهوده المضنية في حماية الطالبات ورسم الابتسامة على وجوههن، ولكن أمرا كان يحدث كل يوم وفي نفس التوقيت، ساهم في تعطيل مشروع المقالة، حيث كان (العم عبدالله) يصر على تسليم الميكرفون وكافة مهامه للحارس الآخر المقيم، بمجرد سماعه أذان الظهر، فيذهب إلى الرصيف بالجهة المقابلة ويتوضأ من أبريق لديه ويفرش سجادته ويصلي وسط حرارة الشمس ثم يجلس ليسبح ويستغفر على مهله، بعدها يعود لمزاولة مهامه بنفس الحماس، وحين عاتبه ممازحا أحد أولياء الأمور : كيف تتركنا بهذا الوقت المهم؟! أجابه (العم عبدالله) بكل صرامة: أجل تبغاني أؤخر الصلاة أنت وياه وأغضب الله سبحانه!؟ في اليوم التالي لليوم الذي انتشر فيه فيديو حارس المدرسة 373 الابتدائية وما صحبه من تكريم ومكافآت مالية وعينية، وجدت (العم عبدالله) على غير العادة، لم يبد ذلك الاهتمام بحضورنا وكان يمسك بجريدة ويتصفحها بعناية، ربما كان يتوقع مثلي بأنه الحارس الذي ظهر في المقطع، ربما كان يبحث عن صورته، ربما توهم للحظات بأنه سيجني ثمرة وفائه وإخلاصه وتعامله بالفطرة لسنوات، لكنه لم يجد في تلك الوسيلة ما يريده، فالأضواء منصبة على حفلات المجاملات، أو تتبع أخبار الحروب الضارية، أو تداول جرائم المغرر بهم، أما الوجه المشرق للحياة والذي يبعث للتفاؤل من أمثال (العم عبدالله) فلا سوق لهم وظهور أحدهم وما أثير حوله من ضجة غلطة ولن تتكرر، المهم أني طلبت الجريدة منه، خفت لا يدمن قراءة التصريحات والوعود أو يجد ضالته في (الكلمات المتقاطعة)!!