العملية الإرهابية المنسقة والمنظمة في فرنسا لم تفتح ملفاً مألوفاً على مدى عقود المتاهة الغامضة فحسب، بل وضعت العقل الجمعي العالمي أمام سؤال مركزي لا مفر من الإجابة عنه، ويتلخص هذا السؤال في تفسير منابع الإرهاب، وماهية الروافع التي استقام عليها؟ وهل هي صناعة ذات طابع خاص ومحدود.. أم أنها صناعة عالمية يتشارك فيها كل من ينتمي للشر والعدوان؟ للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً لتحديد من كانوا وراء الجماعات (الجهادية) الأولى من الأفغان العرب، ممن ذهبوا إلى أفغانستان معتقدين بأنهم ينازلون الشيوعيين الملاحدة، لكنهم اكتشفوا بعد ذلك بأنهم استخدموا كحصان طروادة لمآرب لاعلاقة لها بالترويجات السياسية والمزاعم الملفقة في أن تلك الحرب كانت ضد التمدد الشيوعي الإلحادي.. ولقد تكشفت الحقيقة تباعاً، حتى جاء السقوط الحر للاتحاد السوفييتي كمناسبة استثنائية وفرصة سانحة لتشكيل نظام عالمي جديد تتزعمه الولايات المتحدة.. يومها انفتحت شهية اليمين الجمهوري الآنجليكاني الهرمجدوني ليواصل درب تهويماته الإيديولوجية القائلة بشرق أوسط جديد يتبلور من خلال الفوضى الخلاقة، ويجسد المفاهيم العنفية النيتشوية، والداروينية الجديدة المستهترة بالقيم الإنسانية التي تختلف عن قواعد البقاء والوحشية الغريزية في الطبيعة الحيوانية. لقد انحدر المحافظون الجدد بمكانة الإنسان ليجعلوه مجرد حيوان يعتبر إبادة نوعه ترجماناً لقانون الطبيعة، ويقولون البقاء للأصلح والأقوى، وفناء الضعيف، متناسين أن القوة الحقيقية ليست معادلة لمفاهيمنا التقليدية في معنى القوة، بل فيما يتجاوز ذلك بمراحل، كما أثبتها الحكماء الإنسانيون أمثال المهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا. منذ تلك اللحظة المبكرة في زمن الحرب الباردة تبلورت ملامح الإرهاب المتدثر بالإسلام، وفاضت تلك الصناعة المريبة بتداعياتها اللاحقة، وصولاً إلى الذروة التراجيدية الهوليوودية في واقعة الأبراج العاتية المشهورة.. يومها مات القاتل والقتيل، وكانت التهمة الجاهزة غير قابلة للنفي الإجرائي، خاصة وقد اعترف زعيم القاعدة آنئذ بالغزوة (المظفرة)، فتناغم الاعتراف القاعدي مع مشروع اليمين الجمهوري الآنجليكاني، وبدت الفرصة سانحة لتعميم العهد الأمريكي العالمي العابر للتاريخ والجغرافيا والثقافات والأنساق القومية والدينية العالمية، وهكذا خرج المارد الهوليوودي مشفوعاً بتنظيرات هيغلية أنجلوسكسونية، كما عند فوكوياما الذي بشر بالعهد الأمريكي الذي سينهي التاريخ المعروف للعالم القديم، وتلك التي بشر بها هنتنغتون الممسوس بالثقافة الهرمجدونية للمسيحية الصهيونية ذات الجذر البروتستانتي القديم، وهكذا سارت سفينة الخرائب العالمية لتشهد البشرية سلسلة من الصدامات والحروب الساخنة والباردة، ولتترنح أوروبا القديمة تحت وطأة الاندفاع اليميني الجمهوري الأمريكي.. فاقدة الحيلة والفتيلة، ومنصاعة لنواميس (اليانكي) الجديد، فيما صحا الدب الروسي من سباته الطويل، ليتربع في مركز القوة والإرادة قيصر روسيا الجديد فلاديمير بوتين.. الجامع بين التقاليد السوفييتية الأمنية، والنزعة الإمبراطورية القيصرية، والتعليم الديني الأرثوذكسي، والروح القومية السلافية الروسية، وعلى مقربة من مشهد الاحتدام العاصف يتموضع التنين الصيني، ليراقب النتائج، ويدير الحرب الكونية بمنطقه الخاص النابع من عقيدة (صن تسو) وثقافة (التاو) التي تقرن التواضع الظاهر بإرادة لا تلين. هكذا سارت الأمور قدماً لنصل إلى النسخة التالية للقاعدة، وليراقب العالم المفجوع بالدماء والدموع، تلك الطفرة الانعطافية الجهنمية، من خلال ما يسمى بتنظيم داعش الذي سقط على معطيات الأرض وحكمة السماء من الغرف المظلمة المريبة لصناع الإرهاب الدولي، وأشار بالبنان للمخرجين الهوليوديين، واستطاع بين عشية وضحاها السيطرة على مئات آلاف الكيلومترات في العراق وسوريا، وأظهر الداعشيون من حيث يدرون أو لا يدرون أنهم ليسوا صناعة عربية إسلامية صرفة، بل صناعة دولية مريبة، تشارك في بلورتها وتحديد إيقاعها رعاة التطرّف والإرهاب من طرف خفي، وأنظمة البؤس والخيبات في العالم العربي، وموظفي الدين السياسي المنتشرين في أرجاء المدونة التاريخية البائسة للدين السياسي. النظام الأمريكي متهم بصناعة داعش، لأن النواة الصلبة للمسيحية الصهيونية تجد في داعش وأمثاله وسيلة فاعلة لصهر الأديان والقوميات والملل والنحل، في أتون حرب شاملة للتنافي العدمي الذي يوصل البشرية إلى النهايات التي أرادها (الرب) بحسب زعمهم، ومن المفجع أن هذه العقيدة ليست حكراً على البروتستانتية الآنجليكانية، بل إنها تحضر بذات السخاء في الآداب الدينية النبوئية لديانات التوحيد الشرق أوسطية، ويتبناها أكثر الفرق الدينية تطرفاً في تلك الأديان. أسهم النظام العربي السائد أيضاً في رفد داعش وأمثاله بالمفردات المحلية المناسبة، من خلال العنف النفسي الواقع على الجماهير، وانتشار الفقر والإحباط، والإصرار على الإقامة في نموذج الدولة المركزية الأوتوقراطية البسيطة التي تذيب المؤسسة في الفرد، والسلطة بالسلطان. دعاة الضلالات والظلام ممن يصرون على تسمية أنفسهم بعلماء الدين، أسهموا بدورهم في إنعاش ثقافة العنف والكراهية، واستخدموا المنابر المتاحة لنشر ميتافيزيقا الموت والتطرف. نعم.. داعش وإخوته ليس صناعة ذات طابع واحد ووحيد، بل هو النتيجة المنطقية لبؤس الحال والمآل في كامل العالم الذي ساهم في صناعة هذه الفرية.. سواء بالاستزراع البراغماتي، أو بتهيئة البيئة المناسبة لانتشاره، أو بتوظيف المدونة التاريخية الدينية في نشر ثقافة العنف. omaraziz105@gmail.com