في خضم ضربات إرهاب «داعش» في باريس، وقبلها في شرم الشيخ، وفي بيروت، وقبلها وبعدها وأثناءها حروب وإرهاب في العراق وسورية واليمن وليبيا والقدس، تبدّل موقعا «فايسبوك» و»تويتر» من كونهما أداتي تواصل اجتماعي رقمي، إلى ساحتين للتراشقات المستعرة ومنصّتين للاتهامات المتبادلة وللعنصريّات المتقاتلة. دارت رحى حروب بالتراشق اللفظي والتناحر الافتراضي على صفحات «فايسبوك» العربيّة، على المستويّين الوطني والقومي، بل بلغت حدوداً فاقت الخيال. وتغلّبت تلك الحروب على جهود متخيّلة لتقديم العالم العربي باعتباره وحدة واحدة، والعالم باعتباره إنسانيّة واحدة، والشبكة العنكبوتية باعتبارها منصة واحدة تحفل بالصراعات لكن لا تستسلم لها أبداً. سلاحا الحظر وازدواجيّة المعايير في سياق الحروب الافتراضيّة المندلعة على «فايسبوك» حاليّاً، برز سلاح حظر الأصدقاء واتهامهم بازدواجيّة المعايير في التضامن مع الإنسانيّة سواء أكانوا من المنحازين إلى الأعلام الفرنسيّة أم المصريّة أم اللبنانية أم الفلسطينية. ووقف «فايسبوك» شاهداً على هؤلاء وأولئك، بمعنى أنها كانت حروباً عربيّة- عربيّة في فضاء الشبكة العنكبوتيّة الدوليّة. ولوحظ أيضاً أن نسبة وازنة ممن هرعوا إلى استخدام تطبيق علم فرنسا على صور الـ»بروفايل» في صفحاتهم على «فايسبوك»، هم ممن يثابرون على انتقاد أحوال بلدانهم. وفي مصر، أقبلت قلّة ضئيلة على علم فرنسا معظمها ينتمي إلى من يهوّنون حجم الإرهاب الذي تتعرض له مصر، ويرفضون حكم الرئيس السيسي، ويطالبون بإدماج التيّارات الدينيّة في الحكم باعتبارها فصيلاً سياسيّاً. وضمن تلك القلّة، هناك من يصنف نفسه باعتباره ناشطاً أو حقوقياً، بمعنى الإشارة إلى وجود إيمان واضح لديهم بالحقوق والحريّات، حتى في أحلك اللحظات الأمنيّة التي تمر بها البلاد. وضجّت رياح أخرى بالشبكة العنكبوتيّة عبر جهود بذلت على صفحات «فايسبوك» لإتاحة إمكان الاطمئنان على الأفراد إذا كانوا موجودين في باريس، إضافة إلى رسم العلم الفرنسي على الوجوه، وهو ما لم يحدث في مجازر أخرى تدور رحاها منذ خمس سنوات في دول شتى. وردّاً على هاشتاغ «صلّوا لباريس»، اشتعل هاشتاغ «صلّوا لسورية»، وهو الـ»هاشتاغ» الذي وجد لنفسه مكانة ضمن الميول العشرة الأكثر بروزاً على «تويتر» لأيام عدّة. ولم يقتصر الأمر على ذلك الـ»هاشتاغ» الغاضب الذي جاء ردّاً على الـ»هاشتاغ» الباريسي، بل لقي تأييداً من مجموعة كبيرة من المغرّدين التي بادرت إلى نشر كميات هائلة من مقاطع الفيديو المصورة لأطفال سوريين قتلى أو مصابين أو يبكون فقدان ذويهم، في إشارة واضحة إلى أن جانباً من العالم موصوم بالنفاق. وبصورة واضحة، جاء الرد على التهم الزاعقة بـ»نفاق العالم»، بمنتهى الواقعيّة والصدقيّة والشفافيّة، عبر تدوينة مؤسّس موقع «فايسبوك» مارك زوكربرغ، حملت الكلمات الهادئة التالية: «سأل كثيرون من رواد موقع «فايسبوك» عن سبب عدم تفعيل ميزة «التأكّد من السلامة» وتطبيق مزج الصور الشخصية بألوان العلم الفرنسي، بعد التفجيرات التي هزت ضاحية بيروت الجنوبية، وغيرها من الحوادث المشابهة لما حصل في باريس. والحقيقة أنه حتى وقت قريب، كانت تلك الميزة تقتصر على الكوارث الطبيعية، لكن حوادث باريس عجلت بتفعيلها». وبات نافلاً القول أن هناك من لم تقنعه كلمات زوكربرغ، بل زادته تصميماً على الزعق بتهم ازدواجيّة المعايير في الغرب. فيروس الإرهاب تمثّل جانب من تلك الحروب الافتراضيّة المستعرة بتذكير أولئك بأن فرنسا اتّخذت خطوات هي في عرف الحقوق والحريات والديموقراطيات «خرق للحقوق» و»عصف بالحريات»، ما فتح أبواب التراشقات العنكبوتية الإيديولوجيّة على مصاريعها. وكذلك وجدت نكبة الدول التي تعاني فيروس الإرهاب الذي يفتك بمواطنيها، مساحة لها في ردود الأفعال المتضاربة على «فايسبوك»، من قِبَل أولئك الذين انتقدوا المجموعات التي اختارت التضامن مع فرنسا وحدها. وبمعنى ما، مثّل اللجوء إلى التذكير بنكبات في دول عالمثالثيّة أدّت لخسائر بشريّة فادحة، نوعاً من الردّ بـ»من جنس العمل». وهناك مثال معبّر عن ذلك الأمر. ففي يوم الأحد 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، كان الخبر الأكثر قراءة على صفحة «بي بي سي» هو الاعتداء الذي وقع في كينيا وراح ضحيته 147 شخصاً أغلبهم من طلاب وطالبات «جامعة غاريسا». وفي المقابل، تفجّرت مفاجأة مفادها أن ذلك الخبر عينه كان عمره يفوق الستة شهور، على موقع إخباري يشتهر بأنه يتجدّد بسرعة فائقة على مدار الساعة! وكان من الواضح أن عدداً كبيراً من رواد الشبكة العنكبوتية قرّروا توجيه رسالة شديدة اللهجة مفادها أن قتلى فداحة الإرهاب غير خاضعة للتصنيف أو التفنيد أو الانتقاء. الأرجح أن تعود الشبكة العنكبوتيّة في غضون أيام قليلة، إلى إيقاعها المعتاد، بعد أن يملّ بعض الجمهور من ألوان العلم الفرنسي التي تظلّل وجهه، ويقرر بعضه الآخر العودة أدراجه إلى صورته الأصلية، من دون أعلام وطنيّة أو شعارات قوميّة. بعد قليل، سيعود الجميع إلى احتكاكات «فايسبوك» السياسيّة والأيديولوجيّة والاجتماعيّة المعتادة، وحروب «تويتر» التغريديّة بالـ «هاشتاغ» والـ «هاشتاغ» المضاد، بانتظار وقوع كارثة إرهابيّة جديدة كي تنتفض مجدداً الأصابع الضاربة على لوحة المفاتيح والضاغطة على الـ»ماوس»، لتخوض حروباً شبه عبثيّة أخرى! الوطنية المهدورة والقومية الضائعة اندلعت حروب ترويع «الآخر» باتهامات تدور في فلك نقص الوطنيّة واندثار القوميّة، بصورة لا هوادة فيها. ووجد الأصدقاء والمعارف ممن سارعوا إلى النقر على الزر الذي يظلّل وجه صاحبه بألوان العلم الفرنسي، أنه محكوم عليهم مسبقاً. وبين تهم انعدام الحس الوطني، والإندماج مع الغرب المتآمر من جهة، والتلويح بـ»الحظر» في حال استمرت صورته بألوان العلم الفرنسي من جهة اخرى، تعالت نبرة «حس وطني» وجد من يسميّه «نعرة»، بل أطلق عليه اخرون صفة «الادعاء». وفي خضم الادعاءات المتبادلة والاتهامات المتراشقة، رد أصحاب الألوان الفرنسية مدافعين عن حريتهم في اختيار ميولهم التضامنيّة وتعاطفاتهم الأوروبيّة. وذهب البعض إلى حد رمي كرة الاتهامات في ملعب المنتقدين والمعارضين، واصفين إياهم بافتقاد الإنسانيّة وازدواجيّة المعايير في التضامن، بل الإفراط في العنصريّة. ربما يكون عنصر التضامن هو الصورة الأوضح في حروب «فايسبوك» الراهنة. وعبر وسائل تعبير مختلفة، ضجّت محتويات تلك الحروب بكميات هائلة من الصخب السياسي، والتفكير التآمري، والتمرّد على خانة «المفعول به» العربيّة المزمنة. إذ اختار فريق أن يصنع بنفسه ألوان علم بلاده أو أعلام بلدان عربيّة آخرى وقع مواطنوها ضحايا إرهاب على مدار السنوات الخمس الماضية، مع مشاعر نضحت بكثير من أحاسيس القهر والظلم. وسأل أحدهم مستنكراً «لم لا تفعل ذلك (تلوين صورتك بألوان علم فرنسا) لبلدك الذي يفقد مئات الشهداء من مدنيين وشرطة وجيش؟». وتتوالى الـ «لايك» Like وكذلك الـ «شير» («مشاركة» Share)، من دون أن يسلم الأمر من هجوم مُضاد لصديق ما بألوان العلم الفرنسي «بلدي يحكمها الجيش، ويتحكّم بها الفاسدون، ولا مجال فيها لحقوق الإنسان»، فتستعر الحروب الكلاميّة التي تنتهي بالخصام والحظر. أعلام وألغام «صرعة» رسم الأعلام على وجوه مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي للدلالة على الوطنيّة أو التعاطف مع الإنسانيّة، باتت تعصف بأرجاء «فايسبوك» منذ الحوادث الباريسيّة. كما فجّرت تلك الأعلام ألغاماً عدة، وينابيع غضب مكتومة، وسلاسل عنجهيّات موروثة، إضافة إلى توجّهات سياسيّة تتضارب الآراء حولها بشدّة. وبدا أنّ فهم طوفان الأعلام التي هزّت أرجاء «فايسبوك»، يمثّل استعصاءً في ظل موجات عاتية من الاتهامات بالازدواجيّة تقابلها وصمات بالعنصريّة، وتبرز بينها هبّات من الإنسانيّة. بذلك، وقعت إنسانيّة التضامن مع فرنسا في براثن الإرهاب الذي يضرب الشرق الأوسط بالتزامن مع هبوب رياح عاتية عليه اعتبرها البعض علامة على التحضّر والتمدّن. لذا، هرع كثيرون إلى تبني التطبيق الذي أتاحه مؤسّس «فايسبوك» مارك زوكربرغ تضامناً مع ضحايا الإرهاب الباريسي. في المقابل، اعتبر آخرون تلوّن صور أصدقائهم ومعارفهم على «فايسبوك» بالعَلَم الفرنسي بمثابة خيانة للوطن وعمالة للغرب الذي يحمله البعض مسؤوليّة «داعش» وأخواته. كذلك لجأت الردود الوطنيّة على الأعلام الفرنسية المظلّلة للوجوه العربية إلى السلاح نفسه، فخلطت وجوهاً بأعلام عربيّة، خصوصاً المصريّة واللبنانيّة الفلسطينيّة، وهي الدول التي رأى بعض أبنائها أنّها كانت ضحايا الإرهاب وتفجيراته، قبل باريس. ولم تكن أبراج التواصل الاجتماعي العاجيّة في معزِل عن السجالات العاتية في الشوارع العربيّة، بل أن الفضاء الافتراضي شكل مدداً لسجالات الشوارع المتناحرة. واستطراداً تهاوى التضامن الإنساني المفترض وجوده في العوالم الرقميّة، على وقع تلك السجالات والشجارات. وبدا أن قلّة ضئيلة من أنصار التضامن الإنساني الواسع تحلق في سماء مثاليّة، بل تكاد تمر مرور الكرام على الجمهور العربي في الـ «سوشال ميديا».