أثارت الأحداث الأخيرة على الساحة المصرية تساؤلات مشروعة حول الوظيفة الاجتماعية لرأس المال، ومضى المصريون يثرثرون في جلساتهم الخاصة حول ما جرى على نحو ملأ الدنيا وشغل الناس. وواقع الأمر أن علاقة أصحاب الثروة من خبراء الصناعة وملاك الأراضي ورجال الأعمال وأصحاب العقارات الضخمة قد أصبحوا اليوم في اختبار حقيقي لما يجب أن تكون عليه العلاقة بينهم وبين سلطة الحكم، إذ هم داعمون بالضرورة لخطة التنمية ومشروعات الاستثمار، بل ومشاركون أصليون في عملية جذب رؤوس الأموال الأجنبية إلى الداخل؛ لذلك يجب أن تكون علاقتهم صحية وسوية مع الدولة، لا تقوم على التربص من طرف أو المخاوف الحذرة من طرف آخر، ولعلنا نورد في هذا السياق الملاحظات التالية: * أولاً: بدأ الصدام الحقيقي بين الدولة المصرية وأصحاب الثروات، سواء كانت زراعية أو عقارية أو صناعية منذ الأيام الأولى لثورة يوليو عام 1952، ففي التاسع من سبتمبر/أيلول بعد أقل من شهر ونصف الشهر من قيام الثورة صدر قانون الإصلاح الزراعي الذي جرد الإقطاعيين المصريين من أبعادياتهم وحدد الملكية بمئتي فدان للفرد، وكانت تلك هزة عنيفة اقترنت بحل الأحزاب السياسية وإلغاء الألقاب الرسمية، ومنذ ذلك الوقت وأصحاب الثروات في مصر ينظرون إلى الحكومات المتعاقبة في العصر الجمهوري نظرة لا تخلو من شك ولا تبرأ من ريبة، وقد عاود الرئيس الراحل عبدالناصر القيام بالتحديد الثاني للملكية الزراعية حتى انتشرت شعارات التأميم والتمصير وفرض الحراسات. وهنا لابد أن نسجل أنه مهما كانت ملاحظاتنا فإن ذلك لا ينال من فلسفة العدالة الاجتماعية التي جاءت بها ثورة يوليو، وإن لم تنجح في تحقيقها فقد ظهرت طبقات جديدة بديلة هي أقرب إلى الرأسمالية الطفيلية منها إلى الإقطاع بمعناه السياسي ومفهومه التقليدي، ولقد كنا نتصور - نحن طلاب العلوم السياسية - أن القوات المسلحة ورجال الدين والرأسمالية الوطنية؛ يقفون دائمًا في معسكر واحد صوب اليمين المعتدل، لكن استثناءات كثيرة وردت على هذا التصور الجامد، وأثبتت أن الأمر قد يختلف من دولة إلى دولة ومن عصر إلى عصر داخل الدولة الواحدة. * ثانياً: عندما برز مفهوم التطبيق العربي للاشتراكية في ظل علاقات متنامية مع الاتحاد السوفييتي السابق تحفظ قطاع من المصريين على الفكر الجديد، ووقف بعض رجال الدين موقفًا مناهضًا له، لكن التنظيم الواحد لالاتحاد الاشتراكي العربي كان كفيلاً بالمواجهة في ظل كاريزما عبدالناصر وحضوره الطاغي وشعبيته الكاسحة، وشعر أصحاب الثروات الباقية بحالة من التربص الواضح من جانب النظام الاشتراكي الذي نتج عنه تفتيت الأرض الزراعية وتراجع دور الزراعة في الاقتصاد القومي، بينما برزت الصناعة الوطنية بديلاً في بعض قطاعاتها خصوصًا الصناعات الحربية والصناعات الثقيلة، وأسهم رأس المال الخاص طواعية في جزء منها، وتميز القطاع العقاري بالمشاركة الفعالة، ولعل شركة مثل (المقاولون العرب) كانت نموذجًا لذلك، ولابد أن نعترف هنا بأن عددًا من أصحاب الأطيان الزراعية والملكيات العقارية قد تعايشوا - خصوصاً في الجيل الثاني منهم - مع مسيرة يوليو إيماناً بأهدافها ورغبة في البقاء على ساحة العمل الوطني والنشاط الاقتصادي. * ثالثاً: عندما وصل الرئيس الراحل أنور السادات، وهو رجل دولة من طراز رفيع - بينما كان عبدالناصر بطلاً قومياً شامخاً بمعايير عصره - فإن الرئيس السادات بدأ يستعيد آليات السوق ويسعى نحو الاقتصاد الحر ويشجع رأس المال الخاص في محاولة لتقديم أوراق اعتماد جديدة لحكمه لدى الغرب عمومًا والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً؛ مع ابتعاد عن الاتحاد السوفييتي السابق، وجاءت حرب 1973 باعتبارها أول حرب لا تتمكن فيها إسرائيل من هزيمة العرب بقيادة مصر، لكي تكون بداية لعصر الانفتاح الاقتصادي الذي تصدر فيه المشهد رجال الأعمال وأصحاب الثروات، ثم كان عصر مبارك تجسيدًا لذلك بحيث اختلطت الثروة ببعض مظاهر الفساد السياسي والمالي والإداري وجرى تزاوج بين السلطة والثروة على نحو ملحوظ، لكن ذلك لا يمنعنا من القول إن هناك رجال أعمال شرفاء يستحقون التقدير لوطنيتهم ولإحساسهم بالوظيفة الاجتماعية لرأس المال الخاص، وتجاوبهم مع سياسات الدولة أحيانًا لرفع العبء عن الطبقات المقهورة. * رابعاً: اعتمدت الدولة المصرية أسلوباً طوعياً لجذب رؤوس الأموال وضخ الاستثمارات بإجراءات اقتصادية لتسهيل العطاء الطوعي وشراكة القادرين في المشروعات التنموية المختلفة، واعتمدت على مفهوم المبادرة بالتبرع أو الإسهام في الأعمال الخيرية التي يدعو إليها رئيس الدولة أو قرينته حيث كان البعض يراها ثمنًا للرضا عنه والقبول السياسي بدوره، لكن ظهرت مجموعات جديدة من رجال الصناعة الوطنية الذين واصلوا الطريق برغم سياسات الإغراق مع بعض الممارسات الاحتكارية والمنافسات الحادة التي اعتمد بعضها على قاعدة سياسية للانطلاق نحو النشاط الحزبي، ولا نستطيع أن نزعم أن رجال الأعمال لم يقيموا مشروعات احتوت معدلات عالية للتشغيل، بل ونتذكر أن معدل النمو في آخر حكومة قبل ثورة 25 يناير 2011 كان قد بلغ 7%، وهو معدل غير مسبوق في تاريخ الاقتصاد المصري خلال العقود الأخيرة. * خامساً: عندما جاء الرئيس عبدالفتاح السيسي بإرادة شعبية وبأغلبية كاسحة استقبله رجال الأعمال ورواد الصناعة وأصحاب الثروات بترحاب حذر خصوصاً بعد ما دعا الرئيس الجديد إلى ضرورة دعم من يملكون الثروة للاقتصاد الوطني المتهالك بفعل السنوات الخمس الأخيرة، وكانت الاستجابة قوية في الظاهر بينما انتابت بعضهم حالة من القلق مبعثها محاولات تشبيه الرئيس السيسي بالرئيس عبدالناصر، وهو أمر استدعى لدى البعض المخاوف التاريخية من احتمالات تدخل الدولة بإجراءات تحكمية تعيد إلى الأذهان ذكريات خمسينات وستينات القرن الماضي، ورغم أن الرئيس السيسي قد حاول أكثر من مرة طمأنة الجميع قائلًا: إن لكل عصر أفكاره وسياساته، مؤكداً أنه لا يقبل أن ينتزع من صاحب مال ما هو حق له، كما فتحت الدولة صناديق وطنية لدعم الاقتصاد المتراجع، لكن الإقبال عليها كان أقل بكثير من التوقعات، وظلت العلاقة متأرجحة بين الرئيس الذي يحاول تصفية جيوب الفساد واسترداد حقوق الدولة وبين رجال الأعمال الشرفاء الذين حقق معظمهم ما وصل إليه بكفاحه وعرقه عبر السنين، لكن يبدو أن الرواية لم تتم فصولاً، ولحسن الحظ أن الرئيس يتدخل بحكمته وهدوئه عند اللزوم لحسم المواقف وانتزاع المخاوف والتأكيد في ذات الوقت على الدور الاجتماعي لأصحاب الثروة الوطنية على أرض مصر الطيبة في ظل ظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد مع تراكم ملفات مهمة ظلت مغلقة في العقود الأخيرة!