يمكن القول إن تحرك رجال الجيش وهم يحملون السلاح، حول المراكز الحيوية في شوارع بروكسل، هو الشيء الوحيد الذي يعطيك الانطباع بوجود حياة وحركة في عاصمة الاتحاد الأوروبي، والتي تجولنا فيها الأحد، ولاحظنا السكون المميت الذي لا يقطعه سوى صوت سيارة شرطة، أو إسعاف، أو إحدى الحافلات العمومية. وجاء ذلك على عكس الصورة الاعتيادية التي تبدو عليها بروكسل دائما خلال عطلة نهاية الأسبوع من حفلات موسيقية وسهرات ومقاه مفتوحة حتى الصباح ومطاعم تقدم خدماتها حتى الساعات الأولى من الفجر، وأيضا أسواق شعبية يومي السبت والأحد، تقدم سلعا بأثمان رخيصة. وعندما كانت «الشرق الأوسط» تلتقط صورة لمحطة القطارات الداخلية في منطقة شومان بالعاصمة البلجيكية بروكسل، التي توجد بها مؤسسات التكتل الأوروبي الموحد، وكانت المحطة مغلقة، منذ السبت، واستمرت على هذا الوضع أمس، لاحظنا حالة من الضيق على وجه شاب بلجيكي في العقد الثالث من عمره عندما وصل إلى المحطة ووجدها مغلقة، وسألناه: هل أنت غاضب لإغلاق محطة القطارات الداخلية؟ فأجاب: «لديّ ارتباطات ومواعيد، وكنت أعتقد أن الأمر سوف يستغرق يوما واحدا وتعود الأمور إلى طبيعتها»، وتركنا الرجل دون الاستماع إلى سؤالنا الثاني. وتجولت «الشرق الأوسط» في الشوارع القريبة من المفوضية الأوروبية، وهي الجهاز التنفيذي للاتحاد، وقد نكست الأعلام فور وقوع أحداث باريس، ووجدنا عددا قليلا من المارة وشوارع بدت شبه خالية. وقالت سيدة في العقد الرابع وتعمل في محل لبيع الشوكولاته، إنها اضطرت أن تأتي للعمل، وفي الوقت نفسه لم يأت الزبائن، وقالت: «الحركة ضعيفة للغاية.. إنه هدوء مخيف». ومعروف أن بلجيكا مشهورة عالميا بالشوكولاته. وقال بلجيكي في الخمسين من عمره «أعتقد أنها فرصة جيدة للاسترخاء والبقاء في المنزل»، وإنه قرر الخروج لشراء حاجات ضرورية. وأضاف: «سأعود للدفء والاسترخاء ومشاهدة التلفاز، في ظل سقوط الأمطار والبرد الشديد والمخاطر الأمنية». وانتقلنا بعد ذلك إلى وسط المدينة المعروف بشوارع تكتظ بالمطاعم والمقاهي خاصة في أحياء البورصة وليمونيه وانيسانس، وهي أحياء قريبة من محطة قطار جنوب بروكسل، ومن المنطقة السياحية المعروفة «الميدان الكبير»، ولاحظنا استجابة أصحاب المطاعم والمقاهي لنداء عمدة بروكسل بالإغلاق مساء أول من أمس.. كما أغلقت محلات بيع الشوكولاته التي تشهد إقبالا كبيرا من السياح، نظرا لشهرة الشوكولاته البلجيكية. وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، قال حسن، وهو صاحب مطعم، إن الاستجابة من جانب أصحاب المطاعم والمقاهي لدعوات عمدة بروكسل لإغلاق الأبواب تعكس حرص الجميع على تفادي أي تهديد إرهابي، ولكن «نأمل ألا تستمر الأمور لفترة طويلة». وأشار إلى أن عطلة نهاية الأسبوع التي أغلقت فيها المطاعم والمقاهي أبوابها هي فترة تشهد إقبالا كبيرا من الزبائن، وهذا يعني خسارة كبيرة لأصحاب المطاعم والمقاهي في بروكسل، ولكن تبقى الخسارة في الأموال وهي لا تقارن بالخسارة في الأشخاص. أما في منطقة روجيه القريبة من محطة قطار شمال بروكسل، فيوجد الشارع التجاري الشهير «رينوف»، وهو عادة ما يغلق الأبواب يوم الأحد، لكنه أغلق مبكرا أمس ولم نر أي شخص في الشارع ولا حتى على سبيل المصادفة. وكانت «الشرق الأوسط» قد تلقت رسالة عبر البريد الإلكتروني مؤخرا من قصر الفنون الجميلة حيث يوجد مجمع للمسارح وقاعات مخصصة للحفلات والندوات، وتضمنت الرسالة الإشارة إلى إلغاء الأنشطة، وعادوا وأرسلوا رسالة أخرى تفيد باستمرار الوضع أمس الأحد أيضا. ومن جهتها، ألغت قاعة الحفلات «لانسيين بلجيك» في بروكسل يوما للموسيقيين والموسيقى الإبداعية كانا مقررا السبت. وطالبت دول غربية رعاياها بعدم الخروج من منازلهم، وسط أجواء ذعر من هجوم «إرهابي» محتمل في قلب بروكسل، وذلك عقب رفع حالة التأهب إلى أعلى مستوى. ووجهت سفارات الولايات المتحدة وبريطانيا والسويد تحذيرات لرعاياها، وطالبتهم بالحيطة والحذر خلال تنقلهم في بروكسل، ودعت السفارة الأميركية مواطنيها لالتزام بيوتهم إن أمكن لهم ذلك. وجاءت هذه الدعوات بعد إعلان رئيس الحكومة البلجيكية شارل ميشال رفع مستوى التأهب في بروكسل إلى أعلى مستوى نتيجة ورود معلومات تفيد بأن مجموعة من الأشخاص يخططون لتنفيذ هجمات «إرهابية» مشابهة لهجمات باريس، وتستهدف عدة أماكن ببروكسل، خاصة المراكز التجارية ومحطات النقل العمومي. وحسب تقارير إعلامية فإن إعلان رفع حالة التأهب تزامن مع اعتقال ستة أشخاص في بلدة خارج بروكسل. وأول من أمس، خيّم الشلل على العاصمة البلجيكية، وتوقفت الحياة بشكل شبه تام، على خلفية رفع مستوى التأهب الأمني. وخلا ميدان غراند بلايس (وسط العاصمة) - والمعروف باكتظاظه بالرواد - من الحركة، وبات فارغا، إلا من جنود مسلحين وأفراد شرطة يقومون بدوريات تفقدية في الأرجاء. وبدا الأمر نفسه في شوارع المدينة الخاوية من المارة، وأغلقت المحال التجارية أبوابها، وانتشرت مركبات عسكرية أمام المباني الحساسة تحسبا لاحتمال تعرضها لأي هجمات محتملة. وكانت هيئة التنسيق لتحليل التهديدات التابعة لوزارة الداخلية دعت سكان العاصمة إلى تجنب «الأماكن المكتظة» مثل الحفلات الموسيقية والمناسبات الكبرى ومحطات الحافلات والمطارات ووسائل النقل المشترك والمتاجر الكبرى. كما ناشدت الهيئة سكان بروكسل التعاون لتسهيل إجراءات المراقبة والتفتيش. وأمر رئيس وزراء منطقة بروكسل رودي فيرفورت بضرورة غلق المباني العامة ومراكز التسوق والأسواق وإلغاء الفعاليات الرياضية في العاصمة البلجيكية. وقال فيرفورت إنه «لا توجد فرصة بنسبة صفر في المائة لوجود خطر، ولكن يجب أن نبذل كل ما بوسعنا لضمان سلامة المواطنين». وإلى جانب الإجراءات المتعلقة بقطاع النقل، أوصى مركز الأزمات، أول من أمس السبت «السلطات الإدارية في 19 دائرة (في منطقة بروكسل) بالعمل على إلغاء الأحداث الكبرى على أراضيها» و«إلغاء مباريات في كرة القدم» في عطلة نهاية الأسبوع. كما أوصى بالتوجه إلى السكان لإبلاغهم «بتجنب الأماكن التي تضم تجمعات كبيرة من الأشخاص» و«تعزيز الإجراءات الأمنية والعسكرية». وأوضح مطار بروكسل، حيث تطبق الدرجة الثالثة من الإنذار، أن «المسافرين يمكنهم أن يستقلوا الطائرات كالعادة (...) لكن التوقف في المنطقة المخصصة لتوصيل المسافرين محظور، وأي سيارة تترك هناك ستسحب فورا». وحسب التقديرات الرسمية، من المتوقع أن يشكل المسلمون نصف سكان بروكسل عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي في أفق عام 2050. ويعيش مليون مسلم تقريبا في بلجيكا التي يبلغ تعداد سكانها 11 مليون نسمة، وكانت من أوائل الدول الأوروبية التي اعترفت بالإسلام في سبعينات القرن الماضي، وكان أول فوج من الجاليات الإسلامية وصل إلى بلجيكا في نهاية الخمسينات، وجاء أفراده كعمال لإعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية، وشكل المغاربة والأتراك العدد الأكبر منهم، وأصبح هناك جيل ثان وثالث منهم. وتتنوع جنسيات المهاجرين العرب في بلجيكا ما بين المغرب والجزائر وتونس ولبنان ومصر وجنسيات أخرى. ويتمركزون في مناطق محددة ومنها مولنبيك وأندرلخت وبوكستل للمغاربة، وسخاربيك وسان جوس للأتراك. ووصلت أعداد من ذوي الأصول العربية والإسلامية لعضوية البرلمان البلجيكي، ويحتلون أيضا مناصب مرموقة في مجالات مختلفة مثل الطب والهندسة والتدريس الجامعي.