أضرم واضعو العَلَم الفرنســيّ على «بروفايــــلاتهم»، على مواقـــع التواصل الاجتماعي، ناراً لا يقلّ إوارها عن تلك النيران التي أشعلت قلب عاصــمة النّور أخيراً، فخرج على الناس أشخاصٌ بدوا كما لو أنّهم منزوعو الإنسانية، أو من طينة بشر لا صلة لهم بالألم والتعاطف والمواساة، وكأن أفئدتهم قُدّت من حجر. وذريعة أؤلئك الكارهين أنّ لفرنسا تاريخاً استعمارياً دموياً في الجزائر وفي البلدان التي وقعت تحت قبضة هينمتها في الماضي، وأنّها بالتالي تستحق ما جرى لها، إذ راح متحمّس يقول: «دعوا الفرنسيين يذوقون معنى الألم» في نبرة ظهر فيها مقدار عالٍ من التشفّي. وإذ تُخاطب هؤلاء بأنّ عليهم أن يكونوا ممتنّين لفرنسا التي أهدت، ولا تزال، العالمَ أجملَ ما فيه من رقة وعذوبة وآداب وفنون وفكر وعطر وديموقراطية، فإنهم يعطفون على كلامك بأنها أهدت لنا، عرباً ومسلمين، سايكس بيكو وبعده القتل والتشريد، والقصف بالطائرات، وشتمت نبيّنا الكريم، بل إن معلّقاً يردّ عليك هازئاً: «مالي وتشاد وأفريقيا الوسطى بتسلم عليك وبحكولك عاصمة النور أهدتهم صواريخ وقتل»! ويزيد هؤلاء أنّ الأوْلى أن نضع علم فلسطين أو سورية أو لبنان أو العراق عوضاً عن علم فرنسا (ثم ينعتونها بأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان)، فتردّ عليهم بالحُسنى، كيلا تكون فظّاً غليظَ القلب فينفضّوا من حولك: هل يتعارض تضامني مع ضحايا باريس، مع تضامني مع الضحايا الأبرياء في سورية والعراق وبرج البراجنة (لبنان)، ومع شهداء فلسطين الذين يصعدون نحو الشمس على سلالم المجد؟ وبعد تحليل تأويليّ لمزاعم معشر الكارهين هؤلاء، يتبيّن للوهلة الأولى أنهم لا يختلفون كثيراً عن التفـــكير الذرائعي الذي يعتمد عليه «داعش» في تبرير جرائمه الوحشية، بل إنهم يجهدون في إيجاد المهاد الفكري لتلك الجرائم، فهم بوعي أو من دون وعي يتذكرون «الحملات الصليبية» والحملات التي تشنّها فرنسا وقوات التحالف ضد معاقل الإرهابيين في العراق وسورية. وفضلاً عن ذلك، فإنّ هؤلاء الكارهين ينافحون بلا هوادة عن رأيهم، ويشيطنون واضعي الأعلام الفرنسية، من دون أدنى شعور بعذابات الضحايا، وفي زعمهم أنّ الضحايا الذين سقطوا في باريس يسقطون كلّ يوم في سورية. أوليس الدم السوري أغلى، أو على الأقل مساوياً للدمّ الفرنسي، أم أنّ عقدة الخواجا تهيمن علينا، وتجعلنا نفاضل بين الضحايا، فنذرف التعاطف مع هذا الفريق، ولا نفعل الأمر نفسه مع الفريق الآخر! ويسخرون، إذ تذكّرهم بأننا أسرة كونيّة، وأننا منذورون لإعمار الأرض، وأنّ لا ذنب للشعوب بسياسات بلدانها، وأنّ المواجهة لا تكون في مسرح أو مطعم أو ستاد رياضي، وإنما تكون في ساحات القتال، إن رام المعتدي أن تكون الحرب «شريفة». لا مفاضلة في الدم، هذا أمر مؤكد، ولا جدال فيه، لكنّه ليس ذريعة للشماتة، وليس حجة لفتح خزائن الماضي وانتقاء أســوأ ما فيها من مقـــتنـــيات، لا ســيما أنّ ماضينا ليس أنصع! ثمّ أليس هذا الغرب «الصليبي» الذي نتفاخر بتدميره، ونتوعد الفرنسيين بأن «رائحة الموت لن تفارق أنوفهم» هو الذي أنتج لنا أجمل ما في حياتنا من رفاهية ورقيّ، وسهّل الحياة، وجعلها أكثر احتمالاً، وراحت مختبراته تهزم المستحيل، وتصنع العقاقير للأمراض، وتخفّف أوجاع الروح الإنسانية بالفنون والسينما والجمال. هل تفقّد أحد أولئك الكارهين نفسه، هل نظر إلى الساعة السويسرية في معصمه، أو إلى العطر الفرنسي تحت أرنبة أذنه، أو الموبايل الأميركي أو الكومبيوتر أو «اللابتوب» الذي يبثّ عبره أمواج الكراهية والتحريض على العنف. هل يتذكّر أن سيارته التي يتفاخر بقوتها وأناقتها صُنعت في ألمانيا، وحذاءه الفاخر من بريطانيا، وحليب أطفاله من هولندا، وحقيبة يد ابنته أو زوجـــته أو صديقته من إيطاليا؟ هل يتذكر هؤلاء ماذا قدمت لهم تلك الحضارة «الصليبية». وهل تساءل أيّ واحد من هؤلاء ماذا كان يمكن أن يكون عليه العالم من دون فولتير، أو هيغل، أو شكسبير، أو أينشتاين أو أديسون، أو من سينما هوليوود، أو من دون البنسلين، والحمض النووي، والأنسولين، ولا ننسى أيضاً عقار المخدّر الذي اكتشفه الطبيب الأميركي توماس جرين مورتون عام 1846، لتخفيف آلام البشر العضوية أثناء العمليات الجراحية، لكنّ مورتون لم يكن يتنبأ بأن التخدير سيصيب وجدان بعض الناس، ويعطب حواسهم... ويصحّرها!