أرسلت إليَّ قريبة لي ترجمةً لرسالة كتبها رجل باريسي مكلوم، يُعبِّر فيها عن مشاعره وآلامه وحزنه الذي لفه بعد أن اغتال الدواعش المتوحشون زوجته وأمَّ ولده في أحداث باريس الإرهابية، وجّهها إلى هؤلاء القتلة الأوباش، أضعها أمامكم كما وردتني تماماً دون أي إضافات مني.. يقول فيها: (مساء الجمعة سرقتم حياة كائن استثنائي»حب حياتي ووالدة طفلي» ولكنني لن أكرهكم.. لا أعرفكم ولا أريد أن أعرفكم فأنتم أرواح ميتة، وإذا كان الرب الذي تقتلون باسمه بهذا الشكل الأعمى قد خلقنا على شاكلته فكل رصاصة دخلت جسد زوجتي من رصاصكم صنعت جرحاً في قلبه.. إذاً لن أهديكم كرهي أنتم الذين تبحثون عن الكره، فالرد على حقدكم بالغضب سيجرني إلى دائرة جهلكم نفسها، تلك التي جعلت منكم ما أنتم عليه اليوم. تريدونني أن أخاف وأن أنظر إلى أبناء بلدي بعين الريبة وبأن أتخلى عن أماني وحريتي، أنتم الخاسرون، ولعبتكم قديمة. لقد رأيتها اليوم صباحاً بعد صباحات وليال من الانتظار وكانت جميلة تماماً كما بدت ليلة الجمعة، جميلة كلحظة وقوعي في حبها دون أدنى مقاومة منذ اثني عشر عاماً، لقد دمرني الحزن وأعترف لكم بانتصاركم الصغير هذا ولكنه لن يدوم فأنا أعلم بأنها سترافقنا كل يوم، وبأننا سنلتقي في فضاء للأرواح الحرة، حيث لا وجود لأمثالكم. نحن الآن أثنان؛ أبني وأنا، ولكننا أقوى من كل أسلحة العالم، لا وقت عندي أكرسه لكم أكثر من ذلك، إذ إنني سأوافي «ميلفيل» - (عمره بالكاد 17 شهراً) - الذي أستيقظ من قيلولته وسيأكل وجبته ثم سنذهب لنلعب ككل يوم, هذا الطفل الصغير سيجابهكم مدى حياته بكونه حراً وسعيداً، لأنكم لن تنالوا منه حتى كراهيته، فلن أريبيه على الكراهية، ولا حتى كراهيتي).. انتهت الرسالة. ولست هنا بصدد الحديث عن عقيدته الدينية، ولا صحتها واستقامتها، ولكنني أتحدث عن إنسان مفجوع في أغلى وأعز الناس عليه، زوجته وحبه، وأم طفله، فليس له ولا لها ذنب في كل قضاياكم النابعة من مستنقع العفن والكراهية الذي شربتم منه حتى الثمالة، بل ربما أنه وزوجته كانا متعاطفين مع قضايا العرب والمسلمين، فهل تحملونهما وازرة لم يرتكباها لا هو ولا زوجته، ولا طفله الذي تجرع اليتم بسببكم؟.. وهل من العدل أن يدفعوا ثمناً لا علاقة لهم به، هذا إن كان لكم أصلاً قضية تدافعون عنها، إلا الكراهية والبغضاء، أو تدعون إليها إلا إشاعة الأحقاد بين بني الإنسان؟.. إنها القلوب الحاقدة المريضة، التي جللتها الكراهية، واكتنفها عفنُ البغضاء، فتقيأت سماً زعافاً على كل من تختلف معه، رغم أن المطلوب منها حسب الدين الذي يقولون أنهم يقتلون باسمه، الدعوة بالحكمة والجدال بالحسنى واللين والترغيب لا الترهيب منه كما تنص آيات القرآن والرب الذي أرسل نبيه منذ البدء رحمة وشفقة للإنسان. غير أن واقع هؤلاء يقول ويُحدث عن شيء آخر، لا علاقة له بالإديان قدر علاقتها بالأضغان؛ يقول إن الرحمة لدى بعض الفئات المتأسلمة تتراجع كقيمة إنسانية دعا لها أول من دعا إليها الإسلام، في حين أن ثمة قيماً موبوءة، انتقاها هؤلاء الأوغاد من التراث، ومارستها بعض فرق المسلمين في فترات إحباط تاريخية، هي التي سممت عقول هؤلاء المرضى، وشوهت أمزجتهم، وأحدثت كل هذه المآسي الإنسانية للمسلمين (أولاً) ولغير المسلمين (ثانياً). فمثل هذا الفرنسي المكلوم، هناك من العرب والمسلمين في سوريا والعراق وليبيا من يعانون تماماً ما عاناه، ويشعرون بذات الشعور الذي يشعر به. إنها معضلتنا مع الإرهاب، ومع أساطينه، الذين لا يلتفتون لأصل الإسلام، ولكنهم يتكئون في تأصيلاتهم الفقهية إلى حوادث تاريخية وظروف معينة فينتزعونها من سياقاتها الزمنية ثم يُسقطونها على عصرنا. تلك هي مأساتنا مع الإرهاب ودعاته، التي تمثلها داعش خير تمثيل على الأرض هذه الأيام. إلى اللقاء