هل ثمّةَ توجٌّس اجتماعي أو حتى حضاري من الحضور الثقافي كنشاطٍ إنساني خلاّق؟. وهل باتت الثقافة الحلقة الأضعف اجتماعياً رغم مساعي الدولة للأخذ بيدها إلى الغد والازدهار عبر مؤسسات وفعاليات ثقافية مختلفة ومتنوعة كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون ومعارض الكتب ومهرجانات التراث والثقافة وغيرها؟. لا تغيب مثل هذه الأسئلة المتردّدة والخائفة عن أذهان المثقفين وقد تعوّدوا دائماً للأسف الشديد أن تباحَ أماكنهم وتُستباحَ مآثرهم وأن يتفرّق وجودهم على أكثر من جهة وأكثر من مجتهد يظن أن أبواب الأنشطة الثقافية مداخل فساد ومحاضن فتنة. في كل مرة يقتحم أحدهم مقرّاً هنا أو هناك ثم لا يجد إلا الضوء الذي يعرِّي ظلمته، والطرح الذي يحاور جهله، والقيم التي تشوّه فعله، ومع هذا تتعاقب السنوات وتتكرر المواقف بذات الهيئة وذات الرغبة وذات النتائج، وكأنَّ أولئك المقتحمين يستنسخون بعضهم البعض منذ أكثر من ثلاثة عقود دون أن تجد أنشطتنا الثقافية من يكفل حصانتها حتى وهي تسلك في آليتها كل الاحتياطات الأمنية والبيروقراطية، ذلك لأن إقامة نشاط ثقافي في مؤسسة ثقافية مثل جمعية الثقافة والفنون يستوجب مخاطبات وإجراءات بيروقراطية تسبق إقامة النشاط بأكثر من شهرين في بعض الأحيان ومع عدد من الجهات الحكومية ليس أولها إمارة المكان وليس آخرها مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابع له، ومع هذا لا يأمن هذا النشاط أو ذاك من اقتحام أحد المحتسبين الذين لايرون إلا ما يعتقدون ولا يظنون إلا أن هواجسهم الحق، وفعلهم المثوبة، واحتسابهم الصواب.. دون أن نجدَ حلاً جذريّاً لهذه الظاهرة المسيئة جداً لواقعنا الثقافي والخادشة دائماً لحضورنا الكبير على مستوى الإبداع في مجالات متعددة. فنحن على مستوى الحضور والتفاعل في المجتمعات القريبة منا نحصد الجوائز، ونقيم الندوات والمحاضرات ونحظى باحترام وتقدير على كل المستويات الإنسانية فكرياً وإبداعياً وتوثيقياً. ولا نبالغ لو قلنا إننا في رأس القائمة العربية على مستوى الحضور والمفاعلة، بل إن كثيراً من التظاهرات الثقافية العربية تقوم في الأساس على الحضور السعودي المؤثر، ولنا في منتدى "فكر" على سبيل المثال نموذجاً. فضلاً عن الحضور التسويقي والإثرائي لمعرض الكتاب الدولي في الرياض، ومع هذا ينظر كثير من "المغيبين" فكريّاً وثقافياً لهذا الحضور على أنه ترفٌ وأن تصديره أو تدويره في المجتمع مفسدة له، والأسوأ من هذا هو استشعار البعض من أن مقاومة الثقافة إحدى مسوغات الثواب، والباب الأكبر للاحتساب مع كل فرصة ذات علاقة بالثقافة والمثقفين. ولو لاحظنا كيف يحظى أي نشاطٍ ثقافي بحضورٍ متحفز لعدد ممن لايرون في الفعل الثقافي إلا مهرجان للفساد مهما كان نوعه سواء كان منبرياً كالأمسيات أو الندوات أو كان اجتماعياً كمعارض الكتب أو المهرجانات الثقافية وبالتالي التكريس لهذه المقاومة وتوريثها جيلاً بعد جيل. ويبدو أن الأمر يتعلّق بإرث قديم ذي علاقة بصراعات التيارات الفكرية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وكان ضحيته في كل مرة الثقافة والمثقفين، على الرغم من تطوّر المجتمع ودخوله أكثر وأكثر في مدنيّته التي ينتج عنها -منطقياً- قناعات بالثقافة كعمود رئيس في بناء الحضارات الإنسانية، وطريق ممهّدة لغدٍ مورق بالمجد، فما تطوّرت أمة إلا بمثقفيها ولا ازدهرت حضارة إلا حين تصدّر مثقفوها المشهد فيها. والسؤال القاتل والمحزن في الوقت ذاته: لماذا الثقافة وأنشطتها تحديداً دون الأنشطة الاجتماعية الأخرى؟. البعض يذهب إلى "فوبيا الاختلاط" التي تحسّس منها مجتمعنا المحافظ على خصوصيته دائماً، ولكن الحياة تتطوّر والمرأة ركن فاعل في تطورها فهي مع تنامي المجتمع وتنوع اهتماماته وشؤونه تحضر في أكثر من مجال وفي أكثر من مكان وعلى أكثر من منبر؛ علمياً واقتصادياً وطبياً، ومع هذا لا تقتحم أماكن تواجدها ويُحتجّ على حضورها إلا إذا جاءت مثقّفة أو مبدعة في مجال ثقافي أياً كان، وبالتالي يبرز السؤال الأكبر: من قصّر جدار الثقافة ومن جعلها مستباحة المكان لاجتهادٍ احتسابي بل من كرّس لمفهوم الاحتساب في الثقافة والمثقفين حصراً؟!. إنها أسئلة لا تبحث عن إجابة بقدر بحثها عن حلولٍ لهذا الفعل المتكرر بحجة الاحتساب حين تتوارثه الأجيال ويقرّه المرء لنفسه وفق رأيه واجتهاده، دون أن تجد الثقافة والمثقفين حصانة تكفيهم مؤونة الصراخ في وجه هذا الفعل أوذاك لأكثر من ثلاثة عقود مضت.