استمع علي جرادات هاجم تنظيم القاعدة الإرهابي، (مطلع العام الجاري)، باريس، ما أودى بحياة 130 مواطناً فرنسياً. من حينه، على الأقل، كان على الدول الغربية، والفرنسية بالذات، إحداث تغييرات جوهرية على سياساتها الخارجية، خصوصاً المتعلق منها بالإرهاب ومحاربته، سواء لناحية التمييز بين حركة إرهابية وأخرى، أو لناحية التمييز بين ضحايا الإرهاب، أو لناحية ركوب موجة الإسلاموفوبيا للخلط بين الإسلام كدين وحركات ظلامية إرهابية تتلفع به وهو منها براء، أو لناحية تحميل الجاليات العربية والإسلامية في الدول الغربية وزر جرائم الحركات الإرهابية بغرض سن قوانين عنصرية تسعى إليها أحزاب سياسية وحركات مجتمعية يمينية غربية متطرفة، أو لناحية التستر على دول وجماعات إقليمية حليفة للدول الغربية تقدم المال والسلاح والتسهيلات اللوجستية ومنافذ العبور للعصابات الإرهابية، أو لناحية اختزال محاربة الإرهاب في توجيه ضربات جوية استعراضية لمواقع تنظيم داعش لا تستهدف القضاء عليه، إنما احتواؤه وإبقاؤه تحت السيطرة، أو لناحية الادعاء بأن القضاء على تنظيم داعش الإرهابي وحده يحتاج لسنوات، أو لناحية استخدام الحركات الإرهابية وما لا يحصى من جرائمها في المنطقة، ورقة ابتزاز سياسي لتثبيت السيطرة الغربية على المنطقة والعالم، سواء من خلال إطاحة أنظمة إقليمية لا تواليها، أو من خلال تحجيم دور أقطاب دولية باتت تنافسها بقوة، أو من خلال ضمان تفوق الكيان الصهيوني في المنطقة، الأمر الذي تركب موجته الحركات الإرهابية التي لم تطلق طلقة واحدة باتجاه هذا الكيان الغاصب ومصدر الإرهاب الأول في المنطقة، لتدمير الكيانات والجيوش والبنية المجتمعية الوطنية العربية، في إطار استراتيجية ممنهجة لتصفية القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية. لكن الحكومة الفرنسية، وأغلب الحكومات الغربية، وفي مقدمتها الإدارة الأمريكية، عوض أن تتعظ من هجوم القاعدة الإرهابي على باريس، واصلت سياستها الخارجية النفعية الملتبسة الانتقائية ومتعددة المعايير، واختبأت، كمن يختبئ خلف إصبعه، من الخطر الداهم، حين ظهر، بوضوح لا يقبل الشك، أن إرهاب عصابة داعش، وأخواتها كافة، بات في قلب، وليس على أبواب، الدول الأوروبية، خصوصاً، والغربية، عموماً. بذلك كله لم تأخذ الحكومات الغربية على محمل الجد احتمال وقوع زلزال يشبه في مضمونه، بمعزل عن شكله، زلزال تفجيرات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة. وهذا ما وقع بالفعل في حدث غير مسبوق في تاريخ فرنسا المعاصر، حيث نفذت عصابة داعش الإرهابية، (في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري) مذبحة باريس الوحشية التي سقط فيها مئات المواطنين الفرنسيين الأبرياء بين قتيل وجريح. هنا، لئن كان من الطبيعي أن يتضامن العالم بأسره مع الشعب الفرنسي، ذلك لأن من غير الجائز، بحال من الأحوال، أن يتشفى أحد في مصابه الجلل كشعب يريد أن يعيش، كأي شعب، حياته الطبيعية، فإن تحويل هذا التضامن الواجب إلى نفاق سياسي، لا يخدم الشعب الفرنسي، ولا أي من الشعوب التي تعاني ويلات جرائم الحركات الإرهابية، بل ويحرف البوصلة عن التركيز على دعوة الحكومة الفرنسية، والحكومات الغربية عموماً، إلى مغادرة مواقفها الملتبسة من الإرهاب ومحاربته. إذ لئن كان مصيبة عدم تغيير هذه السياسة بعد الهجوم الذي شنه تنظيم القاعدة على باريس مطلع العام الجاري، فإنه مصيبة أعظم ألا تدفع مذبحة باريس، ومجزرة تفجير الطائرة الروسية، الحكومات الغربية، وفي مقدمتها الإدارة الأمريكية، إلى تبني الدعوة الروسية في قمة العشرين إلى تشكيل جبهة عالمية للقضاء على عصابة داعش وأخواتها، لا كبنية عسكرية، فحسب، بل كفكرة ومصادر تمويل وتسليح وتسهيلات لوجستية ومنافذ عبور، أيضاً، بدءاً بضرب دابرها في العراق وسوريا، حيث يتركز وجودها وما لا يحصى من مذابحها ومجازرها، وصولاً إلى إنهاء وجودها في لبنان واليمن وليبيا ومصر وغيرها من دول المنطقة والعالم. إن تلكؤ الدول الغربية في تشكيل جبهة سياسية عالمية للقضاء على الإرهاب، لن يحصد غير ما حصده تأخير تشكيل الجبهة العالمية ضد الحزب النازي الألماني بقيادة هتلر والحزب الفاشي الإيطالي بقيادة موسوليني، إلى ما بعد صعودهما إلى سدة الحكم، بل إلى ما بعد مبادرتهما إلى إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية التي كبدت العالم خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة في تاريخه، فيما كان من شأن التبكير في تشكيل تلك الجبهة العالمية التي ضمت دولاً ذات مشارب فكرية وسياسات اجتماعية مختلفة أن يقضي على هاتين الحركتين العنصريتين في مهدهما. ونجزم أن هذا الدرس التاريخي حاضر في ذهن قطاع مهم من الشعوب الأوروبية بدأ يستفيق على قضايا اكتشف أنها من صنع الإرث الاستعماري لدوله، ولذلك أصبح يتحرك ضد الظلم. وهذا التيار في تنامٍ سواء لناحية عزل الاحتلال الإسرائيلي أو لناحية مناهضة الحروب غير العادلة، أو لناحية الدعوات الجدية إلى القضاء على الإرهاب الذي لا ينفع لاجتثاثه تقديم المساعدات والصدقات، بل إعادة تنظيم السوق العالمي بما يتيح للشعوب الفقيرة بناء تنمية حقيقية قادرة على فتح خيارات واسعة أمام الشعوب لتضع الإرهاب والتطرف جانباً. لذلك فإنه من دون ردم الهوة بين تطلعات الشعوب الغربية وتطلعات حكوماتها يتحول الكلام الغربي عن الإرهاب ومحاربته لجعجعة من دون طحين. فأوروبا الرسمية لم تتخل عن نزعتها الاستعمارية، حتى وإن رسمت في ميثاقها الأوروبي حقوق الإنسان كهدف من أهداف سياستها الخارجية وهو ما لا تمارسه بشكل نزيه. فمن أوروبا جاء كم كبير من إرهابيي داعش والقاعدة وغيرهما ليعيثوا خراباً في سوريا وليبيا. ومن فرنسا الجريحة بالذات انطلق الصهيوني صاحب الفوضى الخلاقة بيرنارد ليفي. وكأن فرنسا بذلك قد حملت قربة دمٍ خُرقت ليسيل الدم على رأسها، والضحية هو شعب فرنسا لا أصحاب الاحتكارات الذين حولوا فرنسا من بلد الحرية والإخاء والمساواة، إلى بلد استعماري تقاسم تركة العثمانيين والهولنديين وغيرهم مع دول استعمارية أخرى، في مقدمتها بريطانيا، بينما حلت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية محل بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين، اللتين ما زالتا تدوران في فلك السياسة الأمريكية. هنا بالضبط تكمن عراقيل تشكيل تحالف سياسي عالمي يستهدف القضاء على الإرهاب، لا احتواءه وإبقاءه تحت السيطرة. ali-jaradat@hotmail.com