وأنا في صالون الجزائر لتوقيع روايتي الأخيرة 2084/ حكاية العربي الأخير، سألني أحد القراء اليافعين بنيّة طيّبة: لماذا قاطع بعض الكُتَّاب المعرض؟ ضحكت. قلت له لا أعلم لماذا، لكني أعلم في هذا البعض المقاطع مَن انزعج لأنهم نسوه، وآخر قاطع لأنه طالب بحقوق مالية، واثنان ممّن قاطعوا، قاطعوا مَن قاطعوا. لكن في النهاية هذا حق من حقوقهم. لكن انظر كم من كَاتِب وفنان ومبدع شارك في المعرض؟ أهم الكُتّاب الجزائريين الذين يعيشون في الجزائر وخارجها شاركوا. قلت له هل تعرف لماذا شارك هؤلاء؟ قال مثل طفل يُبدع إجابة لسؤال لم يكن مهيأ له: لأنهم يُحبّون وطنهم. قلت له ربما هذا وحده لا يكفي، المقاطع يُحب وطنه أيضًا. ربما لأنهم يحترمون قرّاءهم. المعرض عرسٌ كبيرٌ يحدث مرة في السنة، لهذا الناس ينتظرونه بقوة. القارئ البسيط الذي لا يملك قوت يومه، ويأتي من أقاصي الجزائر العميقة من الشلف، أو خنشلة، أو الجلفة، فقط ليظفر بتوقيع كاتبه المفضل، ويتبادل معه إعجابه، وكلمة حب وخير، يستحق أن نُعيره اهتمامًا. القارئة التي تقطع المسافات متحدّية العائلة التقليدية الضاغطة، فقط لتشتري كِتابًا، وتلتقي بصاحبه لتُناقش معه ما قرأه له سابقًا، من حقّها أن تفرح. الطفلة الصغيرة التي جمعت على مدار السنة قيمة مالية لشراء رواية، لتهمس في أذنك وتفك دهشك؛ لأنك رأيت أن الكتاب كبير عليها: أُمّي تقرأك، وأريد أن أهديها روايتك الأخيرة، يجب أن لا تخذل في هذا الحق الثقافي الأدنى. الشباب الذين قطعوا المسافات ليقفوا في الطابور، ويتدافعوا ساعات، يحق لهم أن يكون الكاتب في انتظارهم، وينحني لمتاعبهم. ابن قريتك، أو ضاحيتك، أو ولايتك الذي اتّصل بك قبل مدة فقط ليقول لك إنك شرّفت البلاد، والمدينة، وقريتك، وأنّه سيأتي لاقتناء الرواية، ويثير غيرة كلَّ مَن يعرفهم، والذين يُحبّونك بلا مقابل سوى أن يوصلوا أعمالك إلى أبعد نقطة على هذه الأرض، أصدقاؤك الذين جاؤوا مِن بعيد، وحجزوا نسخهم بالكثير من الطيبة والحب قبل وصولهم، كل هؤلاء شُركاء ليس فقط في الكِتَابة، ولكن أيضًا في عرس المعرض. كل أماكن الكتاب أصبحت اليوم مغلقة، وسأكون غبيًّا -قلتُ للشابِّ اليافعِ- إذا تخلّيتُ عن هؤلاء كلّهم فقط؛ لأن المعرض لم ينتبه لعبقريتي، ونسيني في الزحمة. أو لأني أريد من الصحافة أن تكتب عن الحدث، أو لأن ترتيبات المعرض لا تروق لي. المعرض حالة وطنية وشعبية أيضًا، لا يمكنني أن أقاطعها. في حياتي ما رأيتُ شخصًا يقاطع معرض بلاده إلاّ في الحالات السياسية الخاصة جدًّا. سألني مرّة أخرى مثل طفل خجول: وهل قاطعتَ في حياتك معرضًا. أجبتُ: قاطعتُ مرّة واحدة معرض باريس؛ لأن ضيفة الشرف كانت إسرائيل. وليس هذا فقط، شيمون بيريس هو مَن افتتحه مع ساركوزي، فأعطاه صبغة سياسية منذ البداية، وأفرغه من محتواه الثقافي. وأكثر من هذا أيضًا، فقد جاء المعرض في الذكرى الستين لاغتصاب فلسطين، وتشريد شعبها. انتبهتُ للشاب. كان سعيدًا وهو يحمل سلة كتب موقّعة من كتاب عرب، وغير عرب. بعد أن وقّعت له رواية 2084/ العربي الأخير، خرج بصعوبة من الزحمة سعيدًا، بينما غرقت في عرس المعرض الذي أسعدني بفرح، لأنه على مدار عشرة أيام سيمنح المليون من الزوّار فرصة أن يفرحوا هذه المرة بالكتب، وليس بشيء آخر. فرحة لا يشعر بها إلاّ من له عشق خاص للكتاب، وسحر الكتابة، وقليل من السخاء الثقافي يتقاسمه مع الناس الآخرين الذين يأتون نحوه أو يقصدهم هو أيضًا. المعرض عرس للكتاب، والكاتب، والقارئ، ولحظة فرح تأتي مرة في السنة، وتضييعها لأسباب سياسية، أو تضخم مرضي في الذات، يسرق حقًّا هو ملك للقارئ أكثر من الكاتب.