حاوره/ هيثم حسين يحمل الناقد والباحث السوري خالد حسين فضاءاته السورية في داخله، ولم ينفتح على فضائه السويسري بعد كما يحلم، ولهذا يعتقد أن القراءة ليست إلا استجابة متاهة في مواجهة متاهات نصية، واصفا الكتابة بأنها مغامرة طائشة واستغراق في لعبة البياض والسواد وانتهاك لسلطة الوعي. يلفت حسين إلى أن الثورة السورية كشفت عن يسار متعفن في مقولات مهترئة، ويرى أن بعض المثقفين ممن يعدون أنفسهم مفكرين يقدمون تسويغات سخيفة للوقوف مع النظام، لكنهم في الحقيقة يكشفون عما لم يتكشف في خطاباتهم السابقة للقراء من مواقف أيديولوجية طائفية في الأصل. كان الدكتور خالد حسين مدرسا للأدب العربي الحديث سردا وشعرا، وكذلك الاتجاهات النقدية الغربية في جامعة دمشق-السويداء. صدر له: شعرية المكان في الرواية الجديدة (2000)، في نظرية العنوان (2007)، شؤون العلامات (2008). وبمناسبة صدور كتابه اقترافات التأويل التقته الجزيرة نت، فكان الحوار التالي: إذا بدأنا بكتابك الجديد اقترافات التأويل تكتب في تقديمك أنها جملة قراءات تتركها للقارئ ليرتكب بدوره اقترافاته في الفهم والتأويل. هل القارئ على عتبة لعبة قراءة تكون أشبه بمتاهة تأويلات؟ أعتقد أن النص -وعلى نحو مضاعف النص الأدبي- لا يستسلم للقراءة بهذه السهولة أو تلك، وبناء على ذلك فأنت كقارئ إزاء متاهة، مفازة، تضاريس وعرة، ومن ثم فلا بد من شكيمة معرفية في مواجهة هذه الجغرافيا التي لن تترك مرتادها إلا تائها في متاهاته ولن يترك هو ذاته في تيهان قراءة العلامات النصية سوى متاهة تأويلات تنفتح على متاهات أخرى، هذا ما حدث لي في كتاب اقترافات التأويل وقبله في الكتب السابقة، فالقراءة ليست إلا استجابة متاهة في مواجهة متاهات نصية، فالقراءة كي تكون حدثا عليها أن تفكك تأبيد الحقيقة وتحتفل بـالترحال بدل الإقامة والمتاهة عوض الطريق الواضح. عن أية حقيقة تنبش كدارس وباحث وناقد عبر ما تصفه بـاقترافات التأويل ولعبة القراءة والكتابة؟ وهل يمكن القول إن كتابك هذا تطبيق عربي واتكاء على نظرية التأويل لبول ريكور؟ ربما من الصعب تحديد هذه الحقيقة ولكن يمكنني القول إن القراءة إذا تهتم بالنص كشفا وتنهمك به رغبة، فإنها تسمح أو تترك عالما بالانبثاق، دعنا نسميه العالم المزدوج الذي يتشكل بلغة غادامير من عالمي القارئ والنص. في هذا العالم الجديد، ونتيجة التصادم بين القارئ والنص تتفكك الحقائق الميتافيزيقية وتتوضح الطبيعة النسبية للمفهومات الثقافية التي تنتج في سياق التاريخ الإنساني، وتتشكل بذلك الخبرة بالعالم التي تمنح معنى سيالا ما قابلا للتفكيك للوجود ذاته، هذه هي الحقيقة التي تناوشتُها في مقارباتي النقدية. أما بخصوص الاتكاء على تأويلية الفيلسوف الفرنسي ريكور، فأعتقد أن القارئ الملم بالنظرية التأويلية يمكنه إمساك المرجعيات الفلسفية التي تحرك آلية القراءة لدي، حيث يتصارع في فضائها مفاهيم هايدغر ودريدا وغادامير وريكور، وفي الحقيقة ساعدتني نظرية ريكور كثيرا في تفسير ظاهرة العنونة في الأدب العربي وتأويلها. لكن القراءة النصية تقوم عندي على ركائز هي القراءة البنيوية للعلامة النصية وتقاطعها مع اللحظة التأويلية للنص، ومن ثم تعريض ما أنجز لحدث تفكيكي ينقذ القراءة ذاتها من السكون ليجعلها ذاتها متاهة وترحالا. تنقّلت في السنوات الأخيرة من التدريس في جامعة دمشق إلى جامعة زاخو (كردستان العراق)، ومنها إلى إسطنبول فسويسرا، هل أسهمت هذه التنقلات الإجبارية بإبعادك عن عالم النقد لصالح العالم الإبداعي؟ في الحقيقة تأثرت كثيرا بهذه التنقلات المكانية، وأثرها سلبي جدا على إنتاجي النقدي، لاسيما أن عمل الأكاديمي يحتاج إلى استقرار ما، مكتبة، مراجع جديدة، ملاحقة للنظريات بقصد التجديد والإغناء، فلم أستطع للأسف التلاؤم مع تقنية اللاب توب حتى الآن في القراءة، وهذا ما أثر على مردود الكتابة النقدية عندي بشكل واضح. وكتابي الأخير اقترافات التأويل، هو جملة من المقاربات التي أنجزتها وأنا في دمشق قبل خروجي. أما الكتابة الأدبية، فغالبا ما أكتب بضع صفحات ثم يعصف بي الملل، وهذا حال شجيرات الكلندور: سيرة سردية. في الحقيقة أجد نفسي مشدودا أكثر إلى الكتابة النقدية المفارقة لغة ومفهومات، إلى النقد في لغة أقرب إلى الشعر. لكن لست بنادم على هذا التنقل من مكان إلى آخر؛ فثمة ما هو أهم من كتابتي: سوريا وقد غمرت بفضاء ديمقراطي يتسع للجميع، هذا الفضاء الذي سيعيد كل شيء إلى ماهيته وطبيعته.. هذا ما أنتظره مثل ملايين السوريين في الداخل والخارج، وأتمنى ألا يطول انبجاس هذا الفضاء الذي لا يفارقني. كيف وأين تتجلى إقامتك السويسرية في كتابتك عن المكان الذي أتيت منه وذاك الذي تقيم فيه، بين شرق يعاني الاحتراب وغرب مشوب بقلق الاندماج والهوية واللغة؟ من المبكر الحديث عن تأثير المكان الجديد (بازل بسويسرا) في نشاطي الكتابي، فما زلت أحمل فضائي القامشلي ودمشق في داخلي، ومازال الاحتشاد المكاني لهذين المكانين يملأ لغتي وكينونتي، ولذلك ثمة مسافة كبيرة تنداح بيني وبين المكان الجديد، ثمة صدوع وفجوات تحتاج إلى ركام زمني لتردم.. إلخ. ثم علينا ألا ننسى أن الإقامة في اللغتين الكردية والعربية كل هذه السنين، ونسج الكينونة فيهما تحدثا وكتابة، لن تستسلم بهذه السهولة للمكان الجديد وتأثيراته، لننتظر فسحة من الزمن ونفتح النافذة على الثقافة الألمانية العريقة. هناك من المثقفين من آثر الصمت إزاء المأساة السورية، أين تصنف نفسك، وكيف تفسر ظاهرة الصمت أو مهادنة الاستبداد أو اختلاق مبررات له؟ تفجر الحدث السوري شكّل ويشكل حدثا عاتيا، ويقينا فاجأ الكل، وأنا أحد هؤلاء الذين كانوا قد فقدوا الأمل بسوريا ديمقراطية، سوريا خارج مضيق الأبد الأسدي، لكن هذا التحدي الذي فجره الشعب السوري، هذه الرغبة العارمة بفضاء جديد هو الذي أعاد الأمل لي، لكن المتاهات التي أدخلت فيها الثورة والإستراتيجية الجهنمية التي اتبعها النظام الاستبدادي، اللاتاريخي في التعامل مع القوى المدنية، وبمعاضدة من قوى دولية وإقليمية، هو الذي يؤخر من قدوم سوريا الجديدة، ولكنها ستأتي. التأمل في خريطة المواقف السياسية من الثورة السورية واضح جدا، فالثورة السورية كشفت عن يسار متعفن في مقولات مهترئة -وباستثاءات قليلة- وفي الحقيقة هذه العفونة في التحالف مع النظام امتدت لليسار العالمي، حتى غدت القوى الماركسية أشبه بكائنات طائفية تثير الاشمئزاز والمقت. ومن الطبيعي أن بعض المثقفين ممن يعدون أنفسهم مفكرين يقدمون تسويغات سخيفة للوقوف مع النظام (نموذج أدونيس وأمثاله)، لكنهم في الحقيقة يكشفون عما لم يتكشف في خطاباتهم السابقة للقراء عن رُشيمات، جذور، مواقف أيديولوجية طائفية في الأصل، كشفوا بذلك عن وعي لم يخرج من الماضي بعد، ويتغذى على ثارات الحسين وزينب، وعي بقي رهين اللاتاريخ ولم يخرج من عتمته حتى الآن. صرّحت قبل مدة بأنك بصدد كتابة نص سيري، ماذا تحدثنا عنه؟ وهل ابتعادك عن العمل الأكاديمي يبعدك عن المجال النقدي لصالح الإبداعي؟ الكتابة مغامرة طائشة، واستغراق في لعبة البياض والسواد، وانتهاك لسلطة الوعي، وهذا لن يتأتى إلا باقتراف علامات نصية تتوسل الخيال وشكيمة القائف، وسأحاول ذلك في شجيرات الكندور: سيرة سردية. أتمنى أن أحاذي ظلال ذلك في مقبل الأيام. وفي واقع الحال ليست الحدود فاصلة بين الأدبي والنقدي عندي، فكتابتي تمزج النوعين وربما كتابي شؤون العلامات احتفل بهذا المزج على نحو شائق.